العدد : ١٦٨٠٧ - الجمعة ٢٩ مارس ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ رمضان ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٠٧ - الجمعة ٢٩ مارس ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ رمضان ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

اللغو صار مهنة

أحتفظ‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬بقصاصة‭ ‬لمقال‭ ‬‮«‬قديم‮»‬‭ ‬للكاتب‭ ‬السعودي‭ ‬الأستاذ‭ ‬فهد‭ ‬بن‭ ‬سليمان‭ ‬الشقيران،‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬قراءة‭ ‬في‭ ‬ظاهرة‭ ‬الألسنة‭ ‬المتدلية‮»‬‭ ‬تناول‭ ‬فيه‭ ‬ظاهرة‭ ‬ممارسة‭ ‬اللغو‭ ‬واللقلقة،‭ ‬واعتبار‭ ‬كل‭ ‬متحذلق‭ ‬يجيد‭ ‬التلاعب‭ ‬بالألفاظ‭ ‬مفكرا‭ ‬ومثقفا‭ ‬جهبذا‭. ‬وقد‭ ‬اختلطت‭ ‬علينا‭ ‬الأشياء‭ ‬واشتبه‭ ‬البقر،‭ ‬حتى‭ ‬صرنا‭ ‬نعتبر‭ ‬كل‭ ‬ثرثار‭ ‬يعتلي‭ ‬منبراً‭ ‬ويرغي‭ ‬ويزبد‭ ‬واللعاب‭ ‬يتطاير‭ ‬من‭ ‬فمه‭ ‬‮«‬فارساً‮»‬،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬للكلمة،‭ ‬بل‭ ‬للحجة‭ ‬والمنطق،‭ ‬ذلك‭ ‬أننا‭ ‬جعلنا‭ ‬من‭ ‬طق‭ ‬الحنك‭ ‬مهنة،‭ ‬وكل‭ ‬ذي‭ ‬صوت‭ ‬زاعق‭ ‬يصبح‭ ‬مطلوباً‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬و«بتاع‭ ‬كله‮»‬‭.‬

أنظر‭ ‬بعض‭ ‬قنواتنا‭ ‬الفضائية‭ ‬التي‭ ‬تستضيف‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬العام‭ ‬شخصيات‭ ‬معينة‭ ‬تجيد‭ ‬فن‭ ‬الاستفزاز‭ ‬والتحريض،‭ ‬والتهريج،‭ ‬شخصيات‭ ‬قاموسها‭ ‬محدود‭ ‬وأفكارها‭ ‬محدودة،‭ ‬تجترها‭ ‬شهرا‭ ‬بعد‭ ‬شهر،‭ ‬ومصيبتنا‭ ‬هي‭ ‬أننا‭ ‬مازلنا‭ ‬نستخدم‭ ‬معايير‭ ‬ومقاييس‭ ‬سوق‭ ‬عكاظ،‭ ‬لتقييم‭ ‬الساسة‭ ‬والعلماء‭ ‬والمفكرين‭ ‬وأهل‭ ‬الثقافة‭ ‬عامة‭:  ‬الأجهر‭ ‬صوتاً‭ ‬والأطول‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الأول‭ /  ‬ذو‭ ‬الصوت‭ ‬الخافت‭ ‬والمتواني‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الثاني‭. ‬فالكلام‭ ‬الرنان‭ ‬الأجوف‭ ‬‮«‬يؤكل‮»‬‭ ‬بقلاوة‭ ‬وليس‭ ‬مجرد‭ ‬خبز‭.‬

المهرجون‭ ‬الغوغائيون‭ ‬صاروا‭ ‬مطلوبين‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬ليقدموا‭ ‬خطابهم‭ ‬الشعبوي‭ ‬الأجوف‭ ‬الذي‭ ‬يدغدغون‭ ‬به‭ ‬حواس‭ ‬السابلة‭ ‬والدهماء‭. ‬وبالمقابل‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬للكلمة‭ ‬المكتوبة‭ ‬سوق‭ ‬رائجة،‭ ‬فطالما‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يقدم‭ ‬لك‭ ‬وجبة‭ ‬كلامية‭ ‬سريعة‭ ‬لا‭ ‬تسبب‭ ‬لك‭ ‬إجهاداً‭ ‬عقلياً،‭ ‬فما‭ ‬حاجتك‭ ‬إلى‭ ‬الكلام‭ ‬المكتوب‭ ‬الذي‭ ‬يتطلب‭ ‬إعمال‭ ‬الفكر،‭ ‬ثم‭ ‬الهضم‭ ‬والاستنتاج؟

تجار‭ ‬الكلام‭ ‬يقدمون‭ ‬لك‭ ‬وجبات‭ ‬كلامية‭ ‬مسبقة‭ ‬الهضم‭. ‬فهذا‭ ‬كأن‭ ‬يقوم‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬بمضغ‭ ‬الطعام‭ ‬ثم‭ ‬إخراجه‭ ‬من‭ ‬فمه‭ ‬ووضعه‭ ‬في‭ ‬حلقك‭ ‬لينزل‭ ‬جوفك‭ ‬مباشرة‭ ‬دون‭ ‬مجهود‭ ‬من‭ ‬جانبك‭!  ‬إخخخخ؟‭  ‬قرف؟‭  ‬ولكن‭ ‬هذا‭  ‬بالضبط‭ ‬ما‭ ‬يتعرض‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬يصفقون‭ ‬ويهللون‭ ‬لكل‭ ‬صاحب‭ ‬حلقوم‭ ‬وبلعوم‭ ‬واسعين‭.  ‬

توقف‭ ‬الأستاذ‭ ‬فهد‭ ‬الشقيران‭ ‬طويلا‭ ‬عند‭ ‬ظاهرة‭ ‬رواج‭ ‬الشعر‭ ‬الشعبي‭/ ‬العامي،‭ ‬وهو‭ ‬مثلي‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬ضيرا‭ ‬في‭ ‬إعجاب‭ ‬الناس‭ ‬بالشعراء‭ ‬الشعبيين‭ ‬المجيدين،‭ ‬أصحاب‭ ‬المواهب‭ ‬الحقيقية،‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يفهم‭ ‬لماذا‭ ‬يريد‭ ‬نصف‭ ‬الخليجيين‭ ‬أن‭ ‬يصبحوا‭ ‬شعراء،‭ ‬وكأن‭ ‬الشعر‭ ‬سلعة‭ ‬مثل‭ ‬صبغة‭ ‬الشعر‭ ‬تشتريها‭ ‬من‭ ‬راجو‭ ‬أو‭ ‬كومار‭ ‬أو‭ ‬كارفور،‭ ‬و«شخارم‭ ‬بخارم‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬يتقمصك‭ ‬شيطان‭ ‬الشعر،‭ ‬ويصبح‭ ‬من‭ ‬حقك‭ ‬أن‭ ‬تظهر‭ ‬على‭ ‬شاشات‭ ‬التلفزيون،‭ ‬وتهز‭ ‬المنابر‭ ‬ثم‭ ‬تنتج‭ ‬أشرطة‭ ‬وسي‭ ‬ديهات‭ ‬ودواوين‭ ‬مطبوعة‭ ‬وتصبح‭ ‬مشهوراً‭ ‬و‮«‬تطلع‭ ‬يا‭ ‬مسعد‭ ‬عليك‭ ‬الغناوي‭/ ‬وتحبك‭ ‬مشيرة‭ ‬وبنات‭ ‬الجزيرة‮»‬‭.‬

شخصياً‭ ‬اعتبر‭ ‬الشعر‭ ‬وجبة‭ ‬ضرورية‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬اليومية،‭ ‬ولا‭ ‬أحسب‭ ‬أنه‭ ‬يمر‭ ‬بي‭ ‬يوم‭ ‬واحد،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬اقرأ‭ ‬بضعة‭ ‬أبيات‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬ولو‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬يومية،‭ ‬واعتقد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬شعراً‭ ‬بالعربية‭ ‬العامية‭ ‬جدير‭ ‬بالاحتفاء‭.  ‬فالشعر‭ ‬شعر‭ ‬وكفى،‭ ‬والمهم‭ ‬في‭ ‬تقديري‭ - ‬وتقديري‭ ‬لا‭ ‬يلزم‭ ‬أحدا‭ - ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬القصيدة‭ ‬حلوة‭ ‬المعاني‭ ‬والمفردات‭ ‬وجميلة‭ ‬الإيقاع‭ ‬سواء‭ ‬بالعامية‭ ‬أو‭ ‬بالفصحى،‭ ‬ولكن‭ ‬قلة‭ ‬قليلة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تستطيع‭ ‬كتابة‭ ‬قصيدة‭ ‬بمثل‭ ‬تلك‭ ‬المواصفات،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬حب‭ ‬الشعر‭ ‬وحفظه‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلب‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الإنسان‭ ‬شاعرا،‭ ‬لكان‭ ‬صاحبكم‭ ‬هذا‭ (‬شخصي‭) ‬متنبي‭ ‬هذا‭ ‬الزمان‭.  ‬فقد‭ ‬قرأت‭ ‬شعر‭ ‬إيليا‭ ‬أبو‭ ‬ماضي‭ ‬كله‭ ‬وحفظت‭ ‬مئات‭ ‬الأبيات‭ ‬منه‭ ‬وأنا‭ ‬دون‭ ‬الـ‭ ‬15‭ ‬وانتقلت‭ ‬بعدها‭ ‬إلى‭ ‬المعري‭ ‬والمتنبي‭ ‬والبحتري‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬السياب‭ ‬ونازك‭ ‬والفيتوري‭ ‬وعبدالصبور‭ ‬ودرويش،‭ ‬وركبني‭ ‬الغرور‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬وحسبت‭ ‬أنني‭ ‬‮«‬وصلت‮»‬‭ ‬وصرت‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬قصائد‭ ‬يتغنى‭ ‬بها‭ ‬المطربون،‭ ‬فارتكبت‭ ‬شعرا‭ ‬أنزل‭ ‬علي‭ ‬عقابا‭ ‬بدنيا‭.‬

من‭ ‬الحقائق‭ ‬العلمية‭ ‬الثابتة‭ ‬أن‭ ‬نسبة‭ ‬جمال‭ ‬الصوت‭ ‬بين‭ ‬الرجال‭ ‬أعلى‭ ‬منها‭ ‬بين‭ ‬النساء،‭ ‬ومقابل‭ ‬كل‭ ‬خمسة‭ ‬أصوات‭ ‬رجالية‭ ‬جميلة،‭ ‬يوجد‭ ‬صوت‭ ‬نسائي‭ ‬واحد‭ ‬جميل،‭ (‬وأتحدث‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬جمال‭ ‬الصوت‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التنغيم‭ ‬والتطريب،‭ ‬وليس‭ ‬الدلال‭ ‬الذي‭ ‬يخلخل‭ ‬أوصال‭ ‬الرجال‭)‬،‭ ‬والشواهد‭ ‬تقول‭:  ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬شاعرا‭ ‬واحدا‭ ‬‮«‬عليه‭ ‬القيمة‮»‬‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬مليون‭ ‬نسمة‭.  ‬ولهذا،‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬المفهوم‭ ‬لماذا‭ ‬يجلس‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬قاعات‭ ‬يصفقون‭ ‬لكل‭ ‬ناعق‭ ‬وزاعق‭ ‬ينثر‭ ‬أمامهم‭ ‬الشعير‭ ‬ويسميه‭ ‬شعرا‭.‬

والمصيبة‭ ‬الكبرى‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬الهوس‭ ‬بشعر‭ ‬الغزل‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬أصعب‭ ‬فنون‭ ‬الشعر،‭ ‬لأن‭ ‬‮«‬الأقدمين‮»‬‭ ‬قالوا‭ ‬فيه‭ ‬معظم‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقال،‭ ‬ولا‭ ‬يستطيع‭ ‬ان‭ ‬يأتي‭ ‬فيه‭ ‬بجديد،‭ ‬إلا‭ ‬أصحاب‭ ‬المواهب‭ ‬البارعة‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا