العدد : ١٦٨٠٧ - الجمعة ٢٩ مارس ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ رمضان ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٠٧ - الجمعة ٢٩ مارس ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ رمضان ١٤٤٥هـ

قضايا و آراء

الانتخابات التركية وحسم الخيارات الاستراتيجية

بقلم : طلال عوكل

السبت ٠٣ يونيو ٢٠٢٣ - 02:00

بعد‭ ‬تفكُّك‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬عام‭ ‬1989،‭ ‬وانهيار‭ ‬المنظومة‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬كتب‭ ‬فوكوياما‭ ‬المفكّر‭ ‬الأمريكي‭ ‬الياباني‭ ‬الأصل،‭ ‬أن‭ ‬سقوط‭ ‬الاشتراكية‭ ‬وحواملها‭ ‬العالمية‭ ‬هو‭ ‬نهاية‭ ‬التاريخ‭.‬

وفق‭ ‬فوكوياما‭ ‬فإنّ‭ ‬هزيمة‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬وما‭ ‬أعقب‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬إعلان‭ ‬الرئيس‭ ‬جورج‭ ‬بوش‭ ‬الأب‭ ‬عام‭ ‬1991،‭ ‬من‭ ‬الكويت،‭ ‬ولادة‭ ‬‮«‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬الجديد‮»‬‭ ‬بزعامة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬يعني‭ ‬أنّ‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬قد‭ ‬أكد‭ ‬صلاحيته‭ ‬المطلقة‭ ‬لإدارة‭ ‬مجتمعات‭ ‬تستحقّ‭ ‬الحياة‭ ‬وأنه‭ ‬سقف‭ ‬التطور‭ ‬الاجتماعي‭.‬

أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود‭ ‬مرّت‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الإصدار‭ ‬الذي‭ ‬حظي‭ ‬باهتمام‭ ‬واسع،‭ ‬وعلى‭ ‬إعلان‭ ‬‮«‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬الجديد‮»‬،‭ ‬كانت‭ ‬حافلة‭ ‬بالمتغيرات‭ ‬الدولية،‭ ‬حيث‭ ‬ظهرت‭ ‬نماذج‭ ‬هجينة‭ ‬من‭ ‬النظم‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬التي‭ ‬أحدثت‭ ‬تغييرا‭ ‬في‭ ‬التسلسل‭ ‬التقليدي‭ ‬للنظم‭ ‬الاجتماعية‭.‬

قدمت‭ ‬الصين‭ ‬نموذجًا‭ ‬جديدًا‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الشمولية‭ ‬وآليات‭ ‬السوق،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬استمرار‭ ‬سيطرة‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬الصيني‭ ‬على‭ ‬إدارة‭ ‬هذا‭ ‬النموذج،‭ ‬الذي‭ ‬يتقدم‭ ‬بسرعة‭ ‬نحو‭ ‬تهديد‭ ‬مكانة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والنظام‭ ‬الدولي،‭ ‬والنماذج‭ ‬الرأسمالية‭ ‬ويكشف‭ ‬عوراتها‭ ‬البنيوية‭.‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬النظام‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الصيني‭ ‬يلفت‭ ‬النظر‭ ‬بقوة،‭ ‬نحو‭ ‬تفوق‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فإنّ‭ ‬تركيا‭ ‬تقدم‭ ‬نموذجا‭ ‬آخر،‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬قدرٍ‭ ‬مهمّ‭ ‬من‭ ‬الفردانية‭ ‬والتميز‭.‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬النموذج‭ ‬الصيني،‭ ‬يقتحم‭ ‬أنظمة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬‮«‬الغربية‮»‬‭ ‬أساسا،‭ ‬ويقدم‭ ‬بديلا‭ ‬ناجحا‭ ‬لتجاوز‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬فإنّ‭ ‬النموذج‭ ‬التركي‭ ‬يقتحم‭ ‬‮«‬تابوهات‮»‬‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وأنظمة‭ ‬الحكم‭ ‬التي‭ ‬تستند‭ ‬إليه‭ ‬عَبر‭ ‬نماذج‭ ‬هجينة‭ ‬بين‭ ‬أنظمة‭ ‬القومية‭ ‬والإسلام،‭ ‬ويقدم‭ ‬نموذجا‭ ‬يجد‭ ‬حلولا‭ ‬للتناقض‭ ‬بين‭ ‬القومية‭ ‬والعلمانية‭ ‬والديمقراطية،‭ ‬وبين‭ ‬‮«‬الإسلام‭ ‬السياسي‮»‬‭ ‬و‮«‬نظام‭ ‬الخلافة‮»‬‭.‬

بعد‭ ‬فوزه‭ ‬في‭ ‬انتخابات‭ ‬ديمقراطية‭ ‬عامة،‭ ‬يشهد‭ ‬الجميع‭ ‬بنزاهتها‭ ‬وللمرّة‭ ‬الثالثة،‭ ‬يؤكد‭ ‬رجب‭ ‬طيّب‭ ‬أردوغان،‭ ‬نجاح‭ ‬النموذج‭ ‬التركي‭ ‬بحصوله‭ ‬على‭ ‬ثقة‭ ‬الأغلبية‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬إسلامي‭.‬

ثمة‭ ‬أهمية‭ ‬خاصة‭ ‬لهذا‭ ‬الفوز،‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬كبيرة،‭ ‬يتجاوز‭ ‬تعداد‭ ‬سكانها‭ ‬المئة‭ ‬مليون،‭ ‬وتحظى‭ ‬بمكانة‭ ‬جغرافية‭ ‬متفرّدة،‭ ‬بين‭ ‬‮«‬الشرق‮»‬‭ ‬و‮«‬الغرب‮»‬،‭ ‬وإمكانيات‭ ‬هائلة،‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬إرثٍ‭ ‬تاريخي‭ ‬إمبراطوري،‭ ‬وإرثٍ‭ ‬إسلامي‭ ‬تحكمه‭ ‬دولة‭ ‬الخلافة‭ ‬لمئات‭ ‬السنين‭.‬

المرشّح‭ ‬المعارض،‭ ‬الذي‭ ‬نافس‭ ‬أردوغان‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الإعادة،‭ ‬كليتشدار‭ ‬أوغلو،‭ ‬كان‭ ‬قوميا‭ ‬متطرفا،‭ ‬يحلم‭ ‬بأن‭ ‬يقوم‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬فوزه،‭ ‬بإعادة‭ ‬تجربة‭ ‬مؤسس‭ ‬الجمهورية‭ ‬التركية‭ ‬كمال‭ ‬أتاتورك،‭ ‬الذي‭ ‬اعتمد‭ ‬معادلة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬التعارض‭ ‬بين‭ ‬الإسلام‭ ‬كدينٍ‭ ‬للمجتمع،‭ ‬وبين‭ ‬الحداثة‭ ‬والديمقراطية‭.‬

كان‭ ‬أتاتورك‭ ‬يحلم‭ ‬بسلخ‭ ‬تركيا‭ ‬المسلمة‭ ‬عن‭ ‬تاريخها،‭ ‬ليؤسّس‭ ‬لها‭ ‬هوية‭ ‬جديدة‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬‮«‬الغربي‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬مؤسّس‭ ‬اللغة‭ ‬التركية‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬اعتمدت‭ ‬الأحرف‭ ‬اللاتينية‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬العربية،‭ ‬وجاءت‭ ‬خليطا‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬وتلك‭ ‬بخصائص‭ ‬تركية‭ ‬خالصة‭.‬

النموذج‭ ‬التركي،‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬ثمة‭ ‬جدوى‭ ‬وأهمية‭ ‬لفكّ‭ ‬التعارض‭ ‬بين‭ ‬الإسلام‭ ‬وبين‭ ‬العلمانية‭ ‬والديمقراطية،‭ ‬وإنّ‭ ‬الديمقراطية‭ ‬ليست‭ ‬وصفة‭ ‬للمجتمعات‭ ‬‮«‬الغربية‮»‬‭ ‬دون‭ ‬غيرها‭.‬

إدارة‭ ‬الدولة‭ ‬بحزب‭ ‬إسلامي‭ ‬هو‭ ‬‮«‬حزب‭ ‬العدالة‭ ‬والتنمية‮»‬،‭ ‬شيء‭ ‬يصب‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الطابع‭ ‬العلماني‭ ‬الديمقراطي‭ ‬للبلاد‭.‬

تؤكد‭ ‬تجربة‭ ‬‮«‬العدالة‭ ‬والتنمية‮»‬‭ ‬أن‭ ‬الدين‭ ‬ينبغي‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الدولة‭ ‬والتقدم‭ ‬الحضاري‭ ‬والحداثي‭.‬

حاول‭ ‬أردوغان،‭ ‬ومن‭ ‬قبله‭ ‬النظام‭ ‬البرلماني،‭ ‬الذي‭ ‬تتزعّمه،‭ ‬أيضاً،‭ ‬‮«‬العدالة‭ ‬والتنمية‮»‬،‭ ‬إجراء‭ ‬عمليات‭ ‬تكيف‭ ‬واسعة‭ ‬ولسنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬أملاً‭ ‬في‭ ‬قبول‭ ‬تركيا‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي،‭ ‬لكن‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يحقق‭ ‬الهدف‭.. ‬وعلى‭ ‬نطاقٍ‭ ‬أوسع،‭ ‬وإذ‭ ‬تسعى‭ ‬تركيا‭ ‬إلى‭ ‬تعزيز‭ ‬دورها‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬بعد‭ ‬الانسحاب‭ ‬الأمريكي،‭ ‬يسعى‭ ‬أردوغان،‭ ‬إلى‭ ‬إقامة‭ ‬علاقة‭ ‬متوازنة‭ ‬بين‭ ‬‮«‬الأطلسي‮»‬‭ ‬ودوله،‭ ‬وبين‭ ‬المحور‭ ‬الروسي‭ ‬الصيني‭ ‬الواعد‭.‬

‭ ‬فوز‭ ‬أردوغان،‭ ‬مهمّ‭ ‬جداً،‭ ‬رغم‭ ‬الآثار‭ ‬الضخمة‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬الزلزال‭ ‬وحالة‭ ‬التضخم،‭ ‬والانخراط‭ ‬في‭ ‬أزمات‭ ‬وملفات‭ ‬معقّدة‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬لكنه‭ ‬يدرك‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمتلك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الخيارات‭ ‬الإستراتيجية‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فشل‭ ‬في‭ ‬الانضمام‭ ‬إلى‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي،‭ ‬ما‭ ‬يشكّل‭ ‬حافزاً‭ ‬لتركيا،‭ ‬لتحقيق‭ ‬طموحاتها‭ ‬ومعاقبة‭ ‬‮«‬الغرب‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يرفض‭ ‬احتضانها‭.‬

 

{ كاتب‭ ‬من‭ ‬فلسطين

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا