العدد : ١٦٨٠٧ - الجمعة ٢٩ مارس ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ رمضان ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٠٧ - الجمعة ٢٩ مارس ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ رمضان ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

أيام كان التلفزيون يحبو

سببت‭ ‬لي‭ ‬بعض‭ ‬مذيعات‭ ‬الفضائيات‭ ‬العربية‭ ‬والمطربات‭ ‬والراقصات‭ ‬اضطرابات‭ ‬عقلية‭ ‬ونفسية‭ ‬حتى‭ ‬صارت‭ ‬تصدر‭ ‬عني‭ ‬عبارات‭ ‬بذيئة‭ ‬مخزونة‭ ‬في‭ ‬سنام‭ ‬ذاكرتي‭ ‬كلما‭ ‬رأيتهن،‭ ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬طهرت‭ ‬لساني‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬العبارات‭ ‬سنوات‭ ‬طوالا‭.‬

وأعود‭ ‬بالذاكرة‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬التلفزيون‭ ‬طاهرا‭ ‬ونظيفا‭ ‬ومبهرا،‭ ‬وبالمناسبة‭ ‬فقد‭ ‬سبقت‭ ‬نحو‭ ‬95‭% ‬قراء‭ ‬هذه‭ ‬الصحيفة‭ ‬في‭ ‬مشاهدة‭ ‬التلفزيون،‭ ‬لسبب‭ ‬بسيط‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬السودان‭ ‬والعراق‭ ‬أول‭ ‬بلدين‭ ‬عربيين‭ ‬عرفا‭ ‬البث‭ ‬التلفزيوني،‭ ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬البدايات‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬التلفزيون‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬اليوم‭ ‬يشتت‭ ‬أذهان‭ ‬الطلاب،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حادث‭ ‬اليوم‭ ‬حيث‭ ‬تتحرش‭ ‬المذيعات‭ ‬والمطربات‭ ‬بعيالنا‭ ‬بالهمس‭ ‬واللمس‭ ‬والآهات‭ ‬والنظرات،‭ ‬والحركات‭ ‬القرعة‭.‬

اكتشف‭ ‬السودان‭ ‬التلفزيون‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الثانوية،‭ ‬ووضعت‭ ‬إدارة‭ ‬المدرسة‭ ‬جهازاً‭ ‬في‭ ‬‮«‬نادي‭ ‬الطلبة‮»‬‭ ‬وخصصت‭ ‬وقتاً‭ ‬محدداً‭ ‬لمشاهدة‭ ‬برامجه‭ ‬فكنا‭ ‬نجلس‭ ‬أمام‭ ‬الجهاز‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬وصمت‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬ثلاث‭ ‬ساعات‭ ‬من‭ ‬قيام‭ ‬العامل‭ ‬المختص‭ ‬بتشغيله،‭ ‬ومن‭ ‬لا‭ ‬يبكر‭ ‬باحتلال‭ ‬موقع‭ ‬متقدم‭ ‬قبالة‭ ‬الجهاز،‭ ‬كان‭ ‬يكتفي‭ ‬بالوقوف‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬نحو‭ ‬ربع‭ ‬كيلومتر‭ ‬من‭ ‬الجهاز‭ ‬كي‭ ‬يتسنى‭ ‬له‭ ‬التفاخر‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬شاف‮»‬‭ ‬التلفزيون،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬بعض‭ ‬المهووسين‭ ‬يتفاخرون‭ ‬بأنهم‭ ‬لمسوا‭ ‬الجهاز‭ ‬بأيديهم‭ ‬‮«‬التي‭ ‬سيأكلها‭ ‬الدود‮»‬‭.‬

كانت‭ ‬جميع‭ ‬البرامج‭ ‬تبث‭ ‬مباشرة‭ ‬لعدم‭ ‬وجود‭ ‬نظام‭ ‬التسجيل‭ ‬بالفيديو،‭ ‬وأذكر‭ ‬أنه‭ ‬بعد‭ ‬دخول‭ ‬السودان‭ ‬عصر‭ ‬التلفزيون‭ ‬بسنوات‭ ‬طويلة‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬مذيع‭ ‬صاحب‭ ‬حضور‭ ‬قوي‭ ‬يقدم‭ ‬سهرة‭ ‬حية‭ ‬عندما‭ ‬واتت‭ ‬الفرصة‭ ‬أحد‭ ‬أعضاء‭ ‬الفرقة‭ ‬الموسيقية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تشارك‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬كان‭ ‬يقدمه‭ ‬فشن‭ ‬هجوماً‭ ‬كاسحاً‭ ‬على‭ ‬ناقد‭ ‬فني‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬شتمه‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬صحفي،‭ ‬وبعد‭ ‬قليل‭ ‬تسلم‭ ‬المذيع‭ ‬قصاصة‭ ‬من‭ ‬الورق‭ ‬عليها‭ ‬ملاحظة‭ ‬من‭ ‬وزير‭ ‬الإعلام‭ ‬الراحل‭ ‬عمر‭ ‬الحاج‭ ‬موسى‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬توجيه‭ ‬الشتائم‭ ‬عبر‭ ‬منبر‭ ‬عام‭ ‬لشخص‭ ‬غير‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬الاستوديو،‭ ‬وأن‭ ‬على‭ ‬المذيع‭ ‬أن‭ ‬يطلب‭ ‬من‭ ‬الملحن‭ ‬أن‭ ‬يسحب‭ ‬كلامه‭ ‬وأن‭ ‬يعتذر‭ ‬للناقد‭ ‬الصحفي‭.. ‬واستخدم‭ ‬المذيع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أسعفه‭ ‬من‭ ‬دبلوماسية‭ ‬لإقناع‭ ‬الموسيقي‭ ‬بالاعتذار‭ ‬لكن‭ ‬صاحبنا‭ ‬ركب‭ ‬رأسه‭ ‬بل‭ ‬أضاف‭ ‬قائلاً‭: ‬إن‭ ‬الناقد‭ ‬يستاهل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭. ‬ووقع‭ ‬المذيع‭ ‬في‭ ‬حيرة‭ ‬بين‭ ‬توجيهات‭ ‬الوزير‭ ‬وعناد‭ ‬الملحن‭ ‬فتوجه‭ ‬إليه‭ ‬متوسلا‭: ‬أرجوك‭ ‬اعتذر‭ ‬عشان‭ ‬ما‭ ‬تخرب‭ ‬بيتنا‭.. ‬فكان‭ ‬أن‭ ‬وصلته‭ ‬قصاصة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الوزير‭ ‬جاء‭ ‬فيها‭: ‬الله‭ ‬يخرب‭ ‬بيتك‭ ‬فقد‭ ‬نطقت‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬اسوأ‭ ‬مما‭ ‬قاله‭ ‬العازف‭ ‬الموسيقي‭!‬

وقعت‭ ‬في‭ ‬غرام‭ ‬التلفزيون‭ ‬وأنا‭ ‬بالمرحلة‭ ‬الثانوية،‭ ‬وربما‭ ‬أسهم‭ ‬هذا‭ ‬الغرام‭ ‬في‭ ‬التحاقي‭ ‬بالعمل‭ ‬في‭ ‬التلفزيون‭ ‬السوداني‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬مضطربة‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬السودان‭ ‬على‭ ‬عهد‭ ‬المارشال‭ ‬جعفر‭ ‬نميري‭. ‬وكان‭ ‬حال‭ ‬التليفزيون‭ ‬كما‭ ‬حال‭ ‬البلاد،‭ ‬فوضى‭ ‬عارمة،‭ ‬وكان‭ ‬رئيس‭ ‬قسم‭ ‬الدراما‭ ‬رجلا‭ ‬عنيدا،‭ ‬وكان‭ ‬أبوه‭ ‬يملك‭ ‬مزارع‭ ‬ضخمة‭ ‬وأجبر‭ ‬ابنه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مولعاً‭ ‬بالتمثيل‭ ‬على‭ ‬الإشراف‭ ‬على‭ ‬مشروع‭ ‬زراعي‭. ‬وبعد‭ ‬الحصاد‭ ‬جمع‭ ‬الولد‭ ‬العنيد‭ ‬المزارعين‭ ‬ووزع‭ ‬عليهم‭ ‬المحصول‭ ‬كله‭ ‬بالتساوي‭ ‬وأشعل‭ ‬النيران‭ ‬في‭ ‬تجهيزات‭ ‬المشروع‭ ‬وهرب‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬لدراسة‭ ‬التمثيل‭ ‬والإخراج‭ ‬المسرحي،‭ ‬فحرمه‭ ‬أبوه‭ ‬من‭ ‬الميراث،‭ ‬فقام‭ ‬الولد‭ ‬بتغيير‭ ‬اسمه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قرر‭ ‬حرمان‭ ‬أبيه‭ ‬من‭ ‬‮«‬الشهرة‭ ‬والمجد‮»‬‭.‬

ذات‭ ‬مرة‭ ‬كان‭ ‬صاحبنا‭ ‬يخرج‭ ‬سهرة‭ ‬تلفزيونية‭ ‬مسرحية‭ ‬من‭ ‬إعداده‭ ‬وفرضت‭ ‬عليه‭ ‬إدارة‭ ‬التلفزيون‭ ‬ممثلاً‭ ‬معينا‭ ‬كان‭ ‬يكرهه‭ ‬ليلعب‭ ‬دور‭ ‬البطولة،‭ ‬وكانت‭ ‬المسرحية‭ ‬تبدأ‭ ‬بقيام‭ ‬فتاة‭ ‬بإطلاق‭ ‬النار‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الممثل‭ ‬ليصاب‭ ‬بجرح‭ ‬سطحي‭ ‬يمهد‭ ‬لعلاقة‭ ‬عاطفية‭ ‬بينهما‭.. ‬كان‭ ‬الممثل‭ ‬يتبجح‭ ‬بأنه‭ ‬انتصر‭ ‬على‭ ‬المخرج‭ ‬العنيد‭... ‬وجاءت‭ ‬ساعة‭ ‬التسجيل‭ ‬وانطلقت‭ ‬الرصاصة‭ ‬فسقط‭ ‬الممثل‭ ‬ممسكا‭ ‬بكتفه،‭ ‬عندئذ‭ ‬صاح‭ ‬المخرج‭ ‬‮«‬ستوب‮»‬‭.. ‬أوقف‭ ‬التسجيل،‭ ‬ثم‭ ‬توجه‭ ‬إلى‭ ‬الممثل‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬يللا‭... ‬اطلع‭ ‬بره‭.. ‬أنت‭ ‬مت‭ ‬خلاص‭..‬‮»‬‭ ‬ووسط‭ ‬دهشة‭ ‬الحضور‭ ‬أعلن‭ ‬المخرج‭ ‬أنه‭ ‬عدل‭ ‬النص‭ ‬بحيث‭ ‬يموت‭ ‬صاحب‭ ‬الدور‭ (‬البطل‭) ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬المسرحية‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬سبيل‭ ‬للاعتراض‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬لأنه‭ ‬كاتب‭ ‬ومعد‭ ‬النص‭.. ‬وتسنى‭ ‬له‭ ‬بذلك‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬الممثل‭ ‬المفروض‭ ‬عليه‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا