العدد : ١٦٨٠٦ - الخميس ٢٨ مارس ٢٠٢٤ م، الموافق ١٨ رمضان ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٠٦ - الخميس ٢٨ مارس ٢٠٢٤ م، الموافق ١٨ رمضان ١٤٤٥هـ

قضايا و آراء

جمال عبدالناصر وحرب فلسطين 1948

بقلم: عبدالله السناوي

الجمعة ١٩ مايو ٢٠٢٣ - 02:00

بعد‭ ‬مرور‭ ‬75‭ ‬عاما‭ ‬على‭ ‬حرب‭ ‬فلسطين‭ ‬1948‭ ‬تتبدى‭ ‬ضرورات‭ ‬المراجعة‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬حتى‭ ‬تستبين‭ ‬الحقائق‭ ‬بأكبر‭ ‬قدر‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬التوثيق‭ ‬لنعرف‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬بالضبط؟‭ ‬لماذا‭ ‬هزمنا‭ ‬في‭ ‬1948؟‭!‬

هذا‭ ‬سؤال‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭. ‬بالنظر‭ ‬السياسي‭ ‬كان‭ ‬دخول‭ ‬الجيوش‭ ‬العربية‭ ‬الحرب‭ ‬بالطريقة‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬بها،‭ ‬مقدمة‭ ‬هزيمة‭ ‬محققة‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬رئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬المصرية‭ ‬محمود‭ ‬فهمي‭ ‬النقراشي‭ ‬موافقا‭ ‬على‭ ‬التدخل‭ ‬العسكري‭ ‬مثل‭ ‬أغلب‭ ‬النخب‭ ‬الحاكمة‭.‬

كان‭ ‬رأي‭ ‬الحاج‭ ‬أمين‭ ‬الحسيني‭- ‬مفتي‭ ‬فلسطين‭ ‬والمتحدث‭ ‬الأول‭ ‬باسم‭ ‬شعبها‭- ‬أن‭ ‬تُسند‭ ‬مهمة‭ ‬المواجهة‭ ‬العسكرية‭ ‬إلى‭ ‬جماعات‭ ‬المتطوعين‭ ‬ودعمها‭ ‬بالسلاح‭ ‬والمال،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬الجيوش‭ ‬رابضة‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ ‬متأهبة‭ ‬ومستعدة‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬نظرة‭ ‬سياسية‭ ‬شبه‭ ‬متقاربة،‭ ‬ولا‭ ‬استراتيجية‭ ‬تجمع‭ ‬الجيوش‭ ‬العربية‭.‬

وبالنظر‭ ‬العسكري‭ ‬نسبت‭ ‬الهزيمة‭ ‬إلى‭ ‬رجلين‭:‬

الأول‭- ‬اللواء‭ ‬المصري‭ ‬أحمد‭ ‬المواوي،‭ ‬قائد‭ ‬حملة‭ ‬فلسطين،‭ ‬وقد‭ ‬حاول‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬أن‭ ‬يبرئ‭ ‬ساحته،‭ ‬كاشفا‭ ‬عن‭ ‬مخاطبات‭ ‬كتبها‭ ‬لقياداته‭ ‬يحتج‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬إرسال‭ ‬القوات‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تدريب‭ ‬كافٍ،‭ ‬أو‭ ‬أسلحة‭ ‬لازمة‭.‬

‭ ‬والثاني‭- ‬الجنرال‭ ‬الإنجليزي‭ ‬جون‭ ‬باجوب‭ ‬جالوب،‭ ‬الذي‭ ‬أسندت‭ ‬إليه‭ ‬القيادة‭ ‬العامة‭ ‬للجيوش‭ ‬العربية،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬يأخذ‭ ‬تعليماته‭ ‬في‭ ‬مجريات‭ ‬الحرب‭ ‬من‭ ‬لندن‭!‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬بوسع‭ ‬الضابط‭ ‬الشاب‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬الذي‭ ‬تجاوز‭ ‬بالكاد‭ ‬الثلاثين‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬وهو‭ ‬يصل‭ ‬بقطار‭ ‬عسكري‭ ‬إلى‭ ‬غزة‭ ‬يوم‭ ‬3‭ ‬يونيو‭/ ‬حزيران‭ ‬1948‭ ‬أن‭ ‬يتوقع،‭ ‬أو‭ ‬يمر‭ ‬بخاطره،‭ ‬أن‭ ‬تجربة‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬سوف‭ ‬تحكم‭ ‬الخطوط‭ ‬العريضة‭ ‬لتوجهاته‭ ‬وتدفعه‭- ‬بعد‭ ‬توقف‭ ‬معاركها‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ - ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬تنظيم‭ ‬‮«‬الضباط‭ ‬الأحرار‮»‬‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬وتشكيل‭ ‬هيئته‭ ‬التأسيسية،‭ ‬التي‭ ‬أطلت‭ ‬على‭ ‬مسارح‭ ‬السياسة‭ ‬الملتهبة‭ ‬يوم‭ ‬23‭ ‬يوليو‭ ‬1952‭.‬

تحت‭ ‬وهج‭ ‬النيران‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬تغير‭ ‬مسار‭ ‬حياته‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬وإلى‭ ‬الأبد‭. ‬تلك‭ ‬حقيقة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬نفيها‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬ما‭ ‬سجله‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬رئيس‭ ‬أركان‭ ‬الكتيبة‭ ‬السادسة‭ ‬في‭ ‬دفتر‭ ‬يومياته‭ ‬الشخصية،‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬على‭ ‬مكتب‭ ‬فوقه‭ ‬لمبة‭ ‬غاز‭ ‬أثناء‭ ‬حرب‭ ‬فلسطين‭.‬

أصدق‭ ‬ما‭ ‬ينسب‭ ‬إلى‭ ‬رجل‭ ‬ما‭ ‬يكتبه‭ ‬بخط‭ ‬يده،‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬مشاعره‭ ‬ومشاهداته‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬الحدث،‭ ‬دون‭ ‬توقع‭ ‬أن‭ ‬أحداً‭ ‬سوف‭ ‬ينظر‭ ‬فيما‭ ‬كتب،‭ ‬ولو‭ ‬بعد‭ ‬عشرات‭ ‬السنين‭.‬

اليوميات‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬كشافات‭ ‬تضيء‭ ‬أجواء‭ ‬حرب‭ ‬فلسطين‭ ‬والتخبط‭ ‬فيها‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬أي‭ ‬تهيّؤ‭ ‬عسكري،‭ ‬أو‭ ‬تخطيط‭ ‬استراتيجي‭ ‬لأوامر‭ ‬القتال،‭ ‬ولا‭ ‬أدنى‭ ‬استعداد‭ ‬في‭ ‬الجاهزية‭ ‬القتالية‭ ‬لدخول‭ ‬الجيوش‭ ‬العربية‭ ‬فلسطين‭.‬

بخط‭ ‬يده‭ ‬سجل‭ ‬انتقادات‭ ‬حادة‭ ‬ومتواصلة‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬الحدة‭ ‬والغضب،‭ ‬فـ‮«‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬احتياط‭ ‬مطلقا‭ ‬من‭ ‬الفصيلة‭ ‬للواء‮…‬‭ ‬ولا‭ ‬توجد‭ ‬أسلاك‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬تحصينات‭ ‬سوى‭ ‬الحفر‮»‬‭.‬

قبل‭ ‬بداية‭ ‬الحرب‭ ‬استطاعت‭ ‬الوكالة‭ ‬اليهودية‭ ‬حشد‭ ‬81‭ ‬ألف‭ ‬مقاتل،‭ ‬معظمهم‭ ‬ضباط‭ ‬اكتسبوا‭ ‬خبرة‭ ‬عسكرية‭ ‬في‭ ‬سنوات‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬فيما‭ ‬كانت‭ ‬أعداد‭ ‬الجيوش‭ ‬العربية‭ ‬مجتمعة‭ ‬37‭ ‬ألف‭ ‬ضابط‭ ‬وجندي‭!‬

‭ ‬وكانت‭ ‬أعداد‭ ‬الطائرات‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬حوزة‭ ‬القوات‭ ‬اليهودية،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬78‭ ‬طائرة‭ ‬عند‭ ‬بداية‭ ‬الحرب‭ ‬فيما‭ ‬لم‭ ‬تتجاوز‭ ‬الـ30‭ ‬طائرة‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬العربي‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬فوارق‭ ‬السلاح‭ ‬خافية،‭ ‬أو‭ ‬باغتت‭ ‬صناع‭ ‬القرار‭ ‬فجأة‭. ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬أورده‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬حسنين‭ ‬هيكل‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬العروش‭ ‬والجيوش‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬مرجعي‭ ‬من‭ ‬جزأين‭ ‬أهميته‭ ‬في‭ ‬قدر‭ ‬توثيقه،‭ ‬حيث‭ ‬يتضمن‭ ‬سجلاً‭ ‬كاملاً‭ ‬للبرقيات‭ ‬العسكرية‭ ‬المصرية‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب،‭ ‬فإن‭ ‬الحقائق‭ ‬تعلن‭ ‬نفسها‭. ‬البرقيات‭ ‬ترسم‭ ‬صورة‭ ‬كاملة‭ ‬لميادين‭ ‬القتال،‭ ‬بطولاته‭ ‬وانكساراته‭.‬

المثير‭ ‬للاستغراب،‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تُدرس‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬بما‭ ‬تستحق‭ ‬من‭ ‬اهتمام‭ ‬وتدقيق‭ ‬ومقارنة‭ ‬مع‭ ‬وثائق‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬الحرب‭.‬

‮«‬إن‭ ‬يومية‭ ‬الحرب‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬العادة‭ ‬أكمل‭ ‬مستند‭ ‬تاريخي،‭ ‬لصورة‭ ‬ميدان‭ ‬القتال‭ ‬والخلفيات‭ ‬السياسية‭ ‬الواصلة‭ ‬إليه‭. ‬‮«‬يوميات‭ ‬الحرب‮»‬،‭ ‬تأخر‭ ‬نشرها‭ ‬عقودا‭ ‬طويلة‭ ‬حتى‭ ‬قرب‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬تماما‭ ‬في‭ ‬يوميات‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬الخطية‭.‬

في‭ ‬المرتين‭ ‬احتفظ‭ ‬بودائعه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يقرر‭ ‬نشرها،‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭- ‬بقرار‭ ‬منه‭ ‬حتى‭ ‬يضع‭ ‬وثائقها‭ ‬في‭ ‬عهدة‭ ‬التاريخ‭ ‬والباحثين‭.. ‬والمرة‭ ‬الثانية‭ - ‬بإلحاح‭ ‬مني‭ ‬حتى‭ ‬تنجلي‭ ‬الصورة‭ ‬الكاملة‭. ‬وكان‭ ‬اعتقاده‭- ‬كما‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬الأستاذ‭ ‬هيكل‭: ‬‮«‬لكل‭ ‬نشر‭ ‬وقته‮»‬‭.‬

أسوأ‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬حرب‭ ‬1948،‭ ‬نسبة‭ ‬هزيمتها‭ ‬إلى‭ ‬عبدالناصر‭! ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬تجهيلاً‭ ‬متعمدا‭ ‬بدواعي‭ ‬الانتقام‭ ‬السياسي‭ ‬وتكريساً‭ ‬للهزيمة‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬العام‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬الكتيبة‭ ‬السادسة‭ ‬المحاصرة‭ ‬في‭ ‬الفالوجة‭ ‬مستعدة‭ ‬أن‭ ‬تستسلم،‭ ‬مؤكدة‭ ‬القتال‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬رجل،‭ ‬وفق‭ ‬البرقيات‭ ‬الرسمية‭.‬

بخط‭ ‬يده‭ ‬كتب‭ ‬يوم‭ ‬28‭ ‬أكتوبر‭ ‬1948‭: ‬كتب‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬‮«‬‭..‬سنقاوم‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬رجل‭..‬‮»‬‭. ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬تلك‭ ‬العبارة‭ ‬القاطعة‭ ‬لمقاتل‭ ‬شاب‭ - ‬بدواعي‭ ‬غضبها‭- ‬البداية‭ ‬الحقيقية‭ ‬لقصته‭ ‬كلها،‭ ‬كأنها‭ ‬نقطة‭ ‬تنوير‭ ‬مبكرة‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬روائي‭ ‬طويل‭.‬

كانت‭ ‬حرب‭ ‬فلسطين‭ ‬ببطولاتها‭ ‬وتضحياتها‭ ‬وأوجاعها،‭ ‬وما‭ ‬كشفته‭ ‬من‭ ‬أوضاع‭ ‬مختلة‭ ‬في‭ ‬قيادة‭ ‬الجيش‭ ‬وقيادة‭ ‬البلاد،‭ ‬المحرك‭ ‬الأول‭ ‬لما‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬بعد‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬بإطاحة‭ ‬النظام‭ ‬كله‭. ‬

في‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬فقط‭ ‬بعد‭ ‬النكبة‭ ‬تغيرت‭ ‬معادلات‭ ‬الإقليم،‭ ‬أممت‭ ‬مصر‭ ‬‮«‬قناة‭ ‬السويس‮»‬‭ (‬1956‭) ‬وواجهت‭ ‬عدوانا‭ ‬ثلاثيا‭ ‬عليها‭ ‬يعترف‭ ‬البريطانيون‭ ‬والفرنسيون‭ ‬بأنهم‭ ‬قد‭ ‬هزموا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬هناك‭ ‬أصوات‭ ‬ترتفع‭ ‬هنا‭ ‬تقول‭ ‬إننا‭ ‬هزمنا،‭ ‬وهذه‭ ‬فرية‭ ‬تفندها‭ ‬بطولات‭ ‬الرجال‭ ‬في‭ ‬حربي‭ ‬الاستنزاف‭ ‬وأكتوبر‭.‬

إن‭ ‬مراجعة‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬النكبة‭ ‬وتداعياتها‭ ‬تكتسب‭ ‬ضروراتها‭ ‬من‭ ‬سلامة‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬تاريخنا‭ ‬الحديث‭ ‬ومنعرجاته‭.‬

‭ ‬{ كاتب‭ ‬صحفي‭ ‬مصري

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا