العدد : ١٦٨٣٤ - الخميس ٢٥ أبريل ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٣٤ - الخميس ٢٥ أبريل ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ شوّال ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

التحوٌّل من جلف إلى نبيل

في‭ ‬المدرسة‭ ‬الثانوية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬أطراف‭ ‬العاصمة‭ ‬السودانية،‭ ‬صار‭ ‬لساني‭ ‬عربياً‭ ‬بدرجة‭ ‬كبيرة‭ ‬فلم‭ ‬أعد‭ ‬أذكر‭ ‬المؤنث‭ ‬وأؤنث‭ ‬المذكر‭ ‬كعادة‭ ‬أهلي‭ ‬النوبيين،‭ ‬ولم‭ ‬أعد‭ ‬أتكلم‭ ‬عن‭ ‬الهروف‭ ‬بل‭ ‬الخروف،‭ ‬وصار‭ ‬اسمي‭ ‬جعفر‭ ‬عباس‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬جافر‭ ‬أباس‭. (‬وكم‭ ‬كانت‭ ‬أمي‭ ‬تحرجني‭ ‬أمام‭ ‬أصدقائي‭ ‬الناطقين‭ ‬بالعربية‭ ‬في‭ ‬الحي‭ ‬الذي‭ ‬انتقلنا‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬الكبيرة‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬تفتح‭ ‬الباب‭ ‬وتناديني‭: ‬جافر‭ ‬تعالي‭ - ‬كانت‭ ‬تنطق‭ ‬الكلمة‭ ‬الأخيرة‭ ‬‮«‬تآلي‮»‬‭)‬،‭ ‬ولكن‭ ‬وبصفة‭ ‬عامة‭ ‬كان‭ ‬مستواي‭ ‬في‭ ‬العربية‭ ‬الفصحى‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬مستواي‭ ‬في‭ ‬العامية،‭ ‬وكانت‭ ‬طبيعتنا‭ ‬القروية‭ ‬الجافة‭ ‬ترفض‭ ‬مفردات‭ ‬عامية‭ ‬مثل‭ (‬آآي‭) ‬التي‭ ‬تعني‭ (‬نعم‭) ‬في‭ ‬العامية‭ ‬السودانية‭ ‬وكنا‭ ‬نرى‭ ‬فيها‭ ‬ليونة‭ ‬لا‭ ‬تليق‭ ‬بالرجال‭.‬

ولحين‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬كان‭ ‬ناظر‭ (‬مدير‭) ‬مدرستنا‭ ‬الثانوية،‭ ‬رجلاً‭ ‬يسيء‭ ‬الظن‭ ‬بأبناء‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬ويعتبرهم‭ ‬‮«‬أجلافا‮»‬،‭ (‬وبيني‭ ‬وبينكم‭ ‬كانت‭ ‬بنا‭ ‬بعض‭ ‬جلافة‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬يجهر‭ ‬برأيه‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬محفل،‭ ‬وكان‭ ‬الرجل‭ ‬من‭ ‬أم‭ ‬درمان،‭ ‬وأهل‭ ‬أم‭ ‬درمان‭ ‬شديدو‭ ‬الاعتزاز‭ ‬بمدينتهم‭ ‬ويعتبرون‭ ‬سكان‭ ‬المدن‭ ‬الأخرى‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬أهل‭ ‬الخرطوم‭ ‬‮«‬جاليات‭ ‬أجنبية‮»‬،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬أم‭ ‬درمان‭ ‬كما‭ ‬ذكرت‭ ‬في‭ ‬مقالاتي‭ ‬مرارا‭ ‬هي‭ ‬عاصمة‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬أنشأها‭ ‬محمد‭ ‬أحمد‭ ‬المهدي،‭ ‬وهي‭ ‬أول‭ ‬دولة‭ ‬سودانية‭ ‬خالصة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث،‭ ‬وقد‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬أنقاض‭ ‬الدولة‭ ‬التركية،‭ ‬وهي‭ ‬بالتالي‭ ‬نتاج‭ ‬أول‭ ‬حركة‭ ‬تحرر‭ ‬وطني‭ ‬ناجحة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬المنطقة‭ (‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭).‬

وكنت‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معلوم‭ ‬لدى‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬ومنظمة‭ ‬العفو‭ ‬الدولية‭ ‬ومنظمة‭ ‬أطباء‭ ‬بلا‭ ‬حدود‭ ‬والاتحاد‭ ‬الدولي‭ ‬لكرة‭ ‬الريشة،‭ ‬شديد‭ ‬الحساسية‭ ‬تجاه‭ ‬مادة‭ ‬الرياضيات،‭ ‬وكان‭ ‬ممنوعاً‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نتواجد‭ ‬في‭ ‬السكن‭ ‬الداخلي‭ ‬أثناء‭ ‬اليوم‭ ‬الدراسي،‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬تسللت‭ ‬إلى‭ ‬العنبر‭(‬غرفة‭ ‬تتسع‭ ‬لعدة‭ ‬أشخاص‭) ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أقيم‭ ‬فيه‭ ‬هرباً‭ ‬من‭ ‬حصة‭ ‬الرياضيات،‭ ‬وكان‭ ‬مدرس‭ ‬الرياضيات‭ ‬‮«‬يرحب‮»‬‭ ‬بغيابي،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يعتبرني‭ ‬عبئاً‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬المادة،‭ ‬وكان‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬الابتدائية‭ ‬يمر‭ ‬حذاء‭ ‬العنبر‭ (‬مدرستنا‭ ‬الثانوية‭ ‬كانت‭ ‬مستوطنة‭ ‬قائمة‭ ‬بذاتها‭ ‬بها‭ ‬مدرسة‭ ‬ابتدائية‭ ‬لأبناء‭ ‬العاملين،‭ ‬ومركز‭ ‬صحي‭ ‬وأندية‭ ‬للمدرسين‭ ‬والطلبة‭ ‬والعمال‭ ‬ومركز‭ ‬شرطة‭ ‬ومحطة‭ ‬كهرباء‭ ‬وماء،‭ ‬وكانت‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬طراز‭ ‬المدارس‭ ‬الإنجليزية‭ ‬الخاصة‭ ‬مثل‭ ‬هارو‭ ‬وإيتون‭).‬

المهم،‭ ‬سمعت‭ ‬أصوات‭ ‬أطفال‭ ‬قرب‭ ‬شباك‭ ‬العنبر‭ ‬وتحققت‭ ‬من‭ ‬مصدر‭ ‬الصوت‭ ‬فكان‭ ‬بنت‭ ‬الناظر‭ ‬وطفل‭ ‬من‭ ‬أقاربها،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬رأياني‭ ‬حتى‭ ‬طلبا‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أساعدهما‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬بعض‭ ‬الأشكال‭ ‬في‭ ‬‮«‬دفتر‭ ‬الفنون‮»‬‭. ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬إلمامي‭ ‬بفنون‭ ‬الرسم‭ ‬مثل‭ ‬إلمام‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬بأصول‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬والخطابة،‭ ‬فقد‭ ‬جلست‭ ‬أرسم‭ ‬لهما‭ ‬أشكالا‭ ‬نالت‭ ‬استحسانهما،‭ ‬وفجأة‭ ‬شعرت‭ ‬بأن‭ ‬الطفلين‭ ‬صمتا‭ ‬وتصلبا‭ ‬فرفعت‭ ‬رأسي‭ ‬ويا‭ ‬للهول‭: ‬كان‭ ‬الناظر‭ ‬شخصياً‭ ‬يقف‭ ‬خلف‭ ‬ظهري،‭ ‬فصدرت‭ ‬عن‭ ‬صدري‭ ‬حشرجة‭ ‬الموت‭ ‬فرددت‭ ‬الشهادتين‭ ‬وتمتمت‭: ‬لن‭ ‬يصيبنا‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬الله‭ ‬لنا،‭ ‬ورغم‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أتوقع‭ ‬حكما‭ ‬قاسيا،‭ ‬التزمت‭ ‬بالأصول‭ ‬وانتفضت‭ ‬واقفاً،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬البروتوكول‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬يقتضي‭ ‬أن‭ ‬تقف‭ ‬كلما‭ ‬مر‭ ‬بك‭ ‬أحد‭ ‬المدرسين،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬تلعب‭ ‬الكرة‭ ‬في‭ ‬الشارع،‭ ‬كانت‭ ‬قدماي‭ ‬تصطكان‭ ‬بقوة‭ ‬8‭ ‬درجات‭ ‬على‭ ‬مقياس‭ ‬ريختر‭. ‬ونطق‭ ‬الناظر‭: ‬غريبة‭! ‬نوبي‭ ‬و‭.. ‬قلت‭: ‬أكيد‭ ‬إعدام‭ ‬طالما‭ ‬الرجل‭ ‬يعرف‭ ‬أنني‭ ‬نوبي‭ ‬وهو‭ ‬يعتبر‭ ‬أهل‭ ‬منطقتنا‭ ‬مثالاً‭ ‬للتخلف‭ ‬والجلافة‭! ‬ولكنه‭ ‬قال‭ ‬كلاماً‭ ‬عجيباً‭: ‬نوبي‭ ‬ولكن‭ ‬نبيل‭.. ‬يا‭ ‬ابني‭ ‬حب‭ ‬الأطفال‭ ‬موهبة‭ ‬ونعمة‭ ‬لا‭ ‬يتمتع‭ ‬بها‭ ‬إلا‭ ‬محظوظون‭ ‬قليلون‭.. ‬قلت‭ ‬في‭ ‬سري‭: ‬أكيد‭ ‬الراجل‭ ‬خرَّف‭.. ‬كيف‭ ‬يمدحني‭ ‬وأنا‭ ‬نوبي‭ ‬مزوغ‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬وأتطاول‭ ‬بمساعدة‭ ‬بنته‭ ‬في‭ ‬الرسم‭.. ‬أفلت‭ ‬من‭ ‬العقوبة‭ ‬وصرت‭ ‬شخصاً‭ ‬محترماً‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الناظر،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬الإضراب‭ ‬عن‭ ‬الدراسة‭ ‬فطردني‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬شر‭ ‬طردة‭... ‬نهائيا‭ (‬وجلست‭ ‬لامتحان‭ ‬الشهادة‭ ‬الثانوية‭ ‬من‭ ‬‮«‬المنازل‮»‬‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬أخرى‭).‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا