مقال رئيس التحرير

أنـــور عبدالرحمــــــن
الفرق بين الرسام والمصوِّر
إن جلَّ مقصدِي من كتابةِ هذا المقالِ، ليس طرح الآراء والأفكار، بل شرح بعض الحقائقِ والأعرافِ البرلمانيَّة، التي هي في واقعِ العملِ البرلمانيِّ منذ نشأةِ النظامِ الديمقراطيِّ.
يجبُ ألَّا نحكمَ مسبقًا على المسائلِ التي تُناقشُ بين الحكومةِ والبرلمان لأن هناك حقائقَ سائدة تؤكِّدُ أن البرلماناتِ تريدُ كلَّ شيء، والحكوماتُ ليس في قدرتها أن تلبيَ كلَّ شيء!
مع كلِّ احترامي للمطالباتِ البرلمانيَّةِ حالهم حال خيال الشاعر أو الرسام الذي يرسمُ ما يريد، أما الحكومة فحالها كآلةِ التصويرِ الفوتوغرافيِّ لا تستطيعُ أن تبالغَ، بل تصوِّر أيما كان مثلما كان كما كان.
ليس هناك أيُّ إنسانٍ يعلمُ أبجدياتِ الاقتصاد ليس على علمٍ بأن العالمَ يمرُّ بمرحلةِ التقشفِ الاقتصاديِّ، بعد الصدماتِ الكبرى التي تؤثِّرُ في مساراتِ الاقتصادِ العالميِّ بدايةً من جائحةِ كورونا وصولا إلى الحربِ الروسيَّةِ الأوكرانيَّةِ التي مازالت تلقي بظلالِها على مختلفِ الاقتصادات.
ولا تخفى على أحد الصورةُ القاتمةُ التي رسمها صندوقُ النقدِ الدوليِّ حول مستقبل الاقتصادِ العالميِّ في العام الجديد، حيث قالت مديرةُ صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا إن عام 2023 سيكون صعبًا على معظم الاقتصاد العالمي في الوقت الذي تعاني فيه معظمُ المحركاتِ الرئيسيَّة للنمو العالمي، وهي الولاياتُ المتحدة وأوروبا والصين، من ضعف نشاطِها الاقتصاديِّ.
ورغم هذه الصورةِ القاتمة إلا أن هناك بارقةَ أملٍ أمام الدولِ الخليجيَّةِ بفضل ارتفاع متوسطات أسعار النفط خلال العام المنصرم، ولكن يجبُ أن تواصلَ هذه الدولُ مسيرةَ الإصلاحاتِ الماليَّةِ والاقتصاديَّةِ حتى تتمكنَ من تحقيق معدلات نمو إيجابيَّة، وهذا يتطلبُ العقلانيَّة الشديدة في إدارة الملف الاقتصادي لتخفيف وطأةِ الركودِ والتضخم على شعوبها على المدى القصير.
ولا يجبُ أن تُكررَ أخطاءُ الماضي، حيث مرت منطقةُ مجلس التعاون على مدار تاريخها بفتراتٍ بارزة من ارتفاع إيرادات النفط، وأثناء هذه الفترات، عمَّقت البلدانُ من اعتمادِها على النفط والغاز، ورفعت الأجورَ ومعدلات التوظيف في القطاع العام، وتوسَّعت في شبكاتِ الأمانِ الاجتماعي، ففي الفترتين من 2002 إلى 2008 و2010 إلى 2014، على سبيل المثال، زادت فاتورةُ أجور القطاع العام بنسب تتراوح ما بين 40% إلى 51% على الترتيب بحسب «البنك الدولي»، ولم تتمكن من إدارةِ مواردها النفطية بالذكاء اللازم لمواجهة التحديات على المدى المتوسط، واستثمار النجاحات على المدى الطويل، للوصول إلى التنميةِ المستدامةِ المنشودة، «إذن هذه أخطاءٌ يجبُ تجنبُها».
الحكمةُ والتكاتفُ يجبُ أن يكونا شعار الأداء خلال هذه المرحلة، وتلك الحكمةُ في الإدارةِ تتطلبُ تضافر الجهودِ الحكوميَّةِ والبرلمانيَّة، وأن يدركَ الطرفان أنهما لا يقفان على طرفي نقيض، ولكنهما في قاربِ تجديفٍ لا يمكنُ أن يتحركَ بأمانٍ إلا من خلال حركةٍ متناغمةٍ بين ملاحيه.
اليوم نحن نخطو خطوةً كبيرةً بإقرار برنامج الحكومة 2023-2026 بالتوافق بين الحكومةِ ومجلس النواب، بعد مفاوضاتٍ ماراثونيَّةٍ بين الفريقِ الحكومي واللجنة النيابيَّةِ المعنيَّة بدراسته، ورغم عدم وضوح كل مسارات التفاوض بين الجانبين في ظل ضعف المعلوماتِ المطروحةِ إعلاميَّا بهذا الشأن «حرمان الصحافة من الحقائق التي دارت بين الحكومة والبرلمان»، إلا أن الوصولَ إلى التوافقِ في النهاية هو بادرةٌ طيبةٌ يجبُ البناءُ عليها في كلِّ ما هو قادم، خاصة أننا مقبلون على فصلٍ آخر من التفاوضِ مع مشروع قانون الميزانية العامة للدولة للعامين القادمين، والتي يجبُ أن تترجمَ بصدق ما طُرح من أولوياتٍ وأهداف في برنامج الحكومة، حتى يمكنَ أن يرى المواطنُ نتائجَ ملموسةً على أرض الواقع.
إن الحكومةَ والبرلمان يستغلان الصحافةَ لطرحِ آرائهم، ويبخلون عن إمدادِها بالمعلوماتِ بما يدورُ في الغرفِ المغلَقة لتوضيحِ الحقائق للرأي العام.
منهاجُ العلاقةِ الحكوميَّةِ البرلمانيَّة لا بد أن يخلوَ من التشنجاتِ أو المزايدات، ويجبُ أن تتسعَ الصدورُ للأفكارِ والأطروحاتِ التي تُقدَّم على طاولةِ الحوارِ المباشر، كما يجبُ أن يتحلَّى الفريقُ الحكوميُّ بأكبر من التفهُّم لما يتعرضُ له النوابُ من ضغوطٍ شعبيَّةٍ كبيرة من المواطنين الراغبين في تحسُّن الأوضاعِ المعيشيَّةِ بأسرع وقت ممكن.
المواطنون يتطلعون من مجلسِ النواب أن يمارسَ دورَه الرقابيِّ للتأكد من مدى التزام الحكومة وقدرتِها على تحقيقِ الخدماتِ وتطلعات الشعب، وتعضيد التنسيق بين السلطتين التشريعيَّة والتنفيذيَّة لإقرار القوانين المهمة التي تمسُّ حياةَ المواطنين واقتصادَ البلد، كما يجبُ إعادةُ النظر بعمقٍ في أيِّ تشريعاتٍ تعيقُ البرلمانَ عن أداء مهامه التشريعيَّة أو الرقابيَّة.
إن الحكومةَ والبرلمان مطالبان بالمكاشفةِ والمصارحة في كلِّ خطواتِهما حتى يطمئنَ الشارعُ إلى سلامةِ المسار «وهذا غير ممكن بتجاهلهما للصحافة»، لأن المواطنَ الذي يطالبُ بالمحافظةِ على مكتسباته، هو من سيقفُ في أول الصفوف لتحقيقِ التنمية الشاملة للمملكة في كل مفاصل الدولة، وهو من سيتحملُ عبء النهوضِ بالمملكة، عندما يثقُ في إخلاص القائمين على رسم الخططِ والسياساتِ المستقبليَّة، وعندما يثقُ في أنه شريكٌ حقيقيٌّ في كتابةِ قصة نجاح التنمية.
علينا أن ننأى بأنفسِنا عن الأطروحاتِ الورديَّةِ غير المبنيَّةِ على حقائقِ الواقع، كما يجب أن ننأى عن إهدارِ الفرص، وعلينا أن نتعلَّمَ من تراثِنا الشعبيِّ، لأن القصةَ القديمةَ تحكي عن رجلٍ عجوز كان يزرعُ في أرضه، سأله حفيدُه عما يفعلُ فأجاب أنه يزرعُ الأشجارَ. استغرب الحفيدُ وقال: تحتاجُ الأشجارُ سنواتٍ طويلةً لتنموَ، ولا يمكنُ لك أن تأكلَ من ثمارِها، فرد العجوزُ قائلا: «غرسوا فأكلنا، ونغرسُ فتأكلون»!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك