للبازار السياسي الجاري في دولة الاحتلال بداية ونهاية، البداية كانت في انتخابات الكنيست، أما النهاية ففي تشكيل الحكومة. ما زال أمام بنيامين نتنياهو بعض الوقت، ولكنه في الطريق إلى تشكيل حكومته بالتحالف مع الأحزاب الحريدية ومع الأحزاب الفاشية في إسرائيل. نتنياهو أدار البازار بكل تعقيداته بمهارة، تماما كما فعل في عمليات التحضير لانتخابات الكنيست الخامس والعشرين. نتنياهو ليس يائير لابيد، عينه وجهده وكل همه كان يتركز على كسب الانتخابات بعد سنوات ثلاث من الفراغ السياسي، ولهذا بذل أقصى جهده حتى لا تجري عملية تشتيت الأصوات في معسكره اليميني. إذا كان ثمن النجاح والعودة إلى شارع بلفور هو تعظيم قوة الصهيونية الدينية كحركة فاشية يمينية متطرفة، فلم لا، فهو ميكافيلي من الطراز الأول.
لابيد، بخلاف نتنياهو ليس سياسيا محترفا، هو جديد على الصنعة، جديد على ألاعيب السياسة، التي يتقنها نتنياهو. في التحضير للانتخابات لم يركز على تحالفات تسمح له بالإمساك بأوراق ما بعد الانتخابات، همه كان حزبه ( يش عتيد – يوجد مستقبل) فأضاع المستقبل واحتفظ بالحزب كقوة تحتل الموقع الثاني في المنظومة السياسية الإسرائيلية. بدد المعسكر المناوئ لنتنياهو، الأحزاب العربية تشظت إلى ثلاثة قوائم يكافح كل منها لاجتياز نسبة الحسم، وكذا كان الحال مع ما يسمى أحزاب اليسار الصهيوني، زعيمة حزب العمل ميراف ميخائيلي رفضت الائتلاف مع حزب ميريتس بزعامة زهافا علئون، فاختفى ميريتس ولم يعد له وجود في الكنيست.
أبعد من ذلك أضاع لبيد عددا من الفرص عندما رفض الموافقة على خفض نسبة الحسم في الانتخابات إلى 2 في المئة، ولم يعر اهتماما لاتفاق حول فائض الأصوات، ولم يمرر «قانون المتهم» في الأسابيع الأولى لما كان يسمى حكومة التغيير كما لم يعر اهتماما لكل ما من شأنه هزيمة الفساد والعنصرية المسيحانية ورفع التهديد عن ما يسمى في دولة الاحتلال بالديمقراطية وتحصين الجهاز القضائي.
وهكذا أصبحت الطريق معبدة لتحول واسع وعميق في النظام السياسي الإسرائيلي، وهو تحول ينذر بانقلاب جديد لا يقل أهمية في تداعياته عن الانقلاب الذي قاده مناحيم بيجين عام 1977 عندما فاز حزبه في انتخابات الكنيست وأقصى عن الحكم سنوات طويلة حزب العمل الإسرائيلي. توجد أوجه شبه بين انقلاب الانتخابات الأخيرة وانقلاب انتخابات عام 1977. في الحالة الأولى تم انتخاب قيادة يمينية واضحة من معسكر اليمين بزعامة مناحيم بيجين ومن بعده إسحق شامير، وضعت إسرائيل في مسار استراتيجي جديد، للأردن ضفتان، هذه لنا وتلك أيضا لنا، لينطلق في الضفة الغربية بما فيها القدس وحش الاستيطان والتهويد على نطاق واسع، وفي الحالة الثانية تم انتخاب قوة جديدة إلى جانب الليكود هي الصهيونية الدينية بكل سماتها المسيانية والفاشية، المعنية بتغييرات أساسية، داخلياً وخارجياً من شأنها أن تطرح صورة جديدة لدولة الاحتلال، لا تختلف كثيرا عن الصورة التي رسمها نتنياهو لدولته في كتابه (مكان تحت الشمس) بل تعززها بقوة دفع وحشية، تطبيق السيادة على الضفة والتشدد في العلاقة مع السلطة الفلسطينية، ومكانة الدين في حياة دولة اليهود والعلاقة بين السلطات ومكانة جهاز القضاء، مع التركيز على تقليل تأثير المنظومة القضائية.
حكومة إسرائيل القادمة لن تكون حكومة يسيطر فيها الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو على المشهد السياسي للسنوات الأربع القادمة. قد لا تستمر هذه الحكومة هذه المدة، التي يحلم بها نتنياهو، غير أن الأمر لا يقف عند حدود مدة ولايتها بل في الأساس على عناصر برنامجها سواء في العلاقة مع الداخل الإسرائيلي أم في العلاقة مع الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967 وإلى جانب ذلك في العلاقة مع الخارج، العلاقة مع الإدارة الأمريكية ومع دول الجوار، نتنياهو سيكون عالقا في خياراته بين برنامج الليكود وبرنامج حلفائه الأكثر فاشية بن غفير وسموتريتش. وبصرف النظر عن العلاقة مع الخارج وتعقيداتها فإن العلاقة مع الفلسطينيين سواء في أراضي 1948 أو في أراضي 1967 هي التي من شأنها أن ترسم أبعاد الانقلاب الذي جاءت به انتخابات الكنيست الأخيرة.
مع حزب بن غفير، القوة اليهودية توصل نتنياهو إلى تفاهمات جعلت من بن غفير حارسا لأطماع إسرائيل التوسعية والعدوانية، فقد فاز بوزارة الأمن القومي بصلاحيات موسعة تجيز له إطلاق موجة من النشاطات الاستيطانية بتمويل حكومي لا تقتصر تداعياتها على تسوية أوضاع ما يسمونه «الاستيطان الفتي، وتحويل البؤر الاستيطانية، التي وضع أرئيل شارون قواعد تأسيسها عام 2001 وانتشرت في طول الضفة الغربية وعرضها كالفطر، رغم مطالبة الرباعية الدولية في خطة خارطة طريقها إلى تفكيكها، إلى مستوطنات شرعية وفق قوانين الاحتلال تتمتع كل منها بحكم محلي وترتبط بشبكة طرق ومياه وكهرباء وبمخصصات كبيرة وربما بتعيين حاخام في كل منها، ما يدفع نتنياهو إلى الزاوية بين ضم زاحف فعلي يجري دون إعلان كما يرغب وضم على طريقة بن غفير وسموتريتش يغلق الطريق تماما أمام تسوية سياسية وتشرع الأبواب أمام دولة ابارتهايد ثنائية القومية يخشاها بنيامين نتنياهو. بن غفير في وزارة الأمن القومي الجديدة سيمون الحاكم الفعلي للضفة الغربية، رئيس حكومة موازية لما يسمى الإدارة المدنية معززا بصلاحيات واسعة ورئيس أركان ليس فقط للشرطة بل ولحرس الحدود والحرس الوطني، الذي قررت حكومة يئير لبيد المنصرفة تأسيسه كمليشيا رسمية للمساعدة في توفير الأمن للمستوطنات والمستوطنين.
الحالة أكثر تعقيدا مع بتسلئيل سموتريتش، زعيم الصهيونية الدينية، الذي تتراوح مطالبه بين تولي وزارة الأمن (الدفاع) أو وزارة المالية بصلاحيات موسعة تغطي أهدافه في تعميق الاحتلال والاستيطان معا. وزارة الدفاع هي السقف المرتفع لزعيم الصهيونية الدينية، وهو يدرك أن ذلك غير ممكن لاعتبارات داخلية إسرائيلية واعتبارات خارجية تتصل في الأصل بموقف الإدارة الأمريكية. ويدرك سموتريتش أن وزارة الدفاع ليست ميدانا لممارسة الهوايات، فهو كوزير للدفاع لا يقرر مثلا متى تقصف طائرات سلاح الجو في سورية أو البنية التحتية لمحطات الطاقة النووية الإيرانية، فهذه الأمور قرارها أبعد ما يكون عن شأن داخلي إسرائيلي، ولكن حتى لو كانت كذلك فإن قرارها ليس منوطا بوزير الدفاع وحده فهناك رئيس الأركان وقادة الجيش وهناك قادة الأجهزة الأمنية كافة وأخيرا قرار رئيس الحكومة. هو ليس ابن المؤسسة العسكرية، ليس رابين أو بن اليعازر أو جانتس، هو في أحسن الأحوال نسخة عن أعمير بيريتس، ولهذا كان ينظر إلى هذه الوزارة باعتبارها المؤسسة التي من خلالها يستطيع أن يدفع من بين أمور متعددة في اتجاه تعميق الاحتلال والاستيطان من خلال السيطرة على الإدارة المدنية ومحافل أخرى، وهو في ذلك لا يختلف عن بن غفير سوى بالدرجة فهو يريد كذلك أن يكون رئيس حكومة «يهودا» و«السامرة». يقرر ما الذي يجب أن تكون الأمور عليه في حومش، وفي أفيتار، وفي الخان الأحمر وفي باقي البؤر الاستيطانية فضلا عن المستوطنات. وعندما يقرر سموتريتش النزول عن شجرة وزارة الدفاع والاكتفاء بوزارة المالية مثلا فلا يفوته المطالبة بتوسيع صلاحيات وزارته لتغطي مجالات عملها تلك الصلاحيات المنوطة بما يسمى الإدارة المدنية في الضفة الغربية أو يهودا والسامرة وفق مصطلحات الاحتلال. وفوق ذلك كله تتقاطع رؤية سموتريتش مع رؤية الأحزاب الحريدية في قضايا داخلية كمضاعفة الموازنات للمدارس الدينية أو تحويل بعض صلاحيات السلطة القضائية إلى الحاخامية الرئيسية لتقرر في شؤون تتجاوز قوانين العائلة في اتجاه تحويل إسرائيل إلى دولة أصولية.
وهكذا فإن نتنياهو يجد نفسه عالقا في تعقيدات شروط التحالف لإقامة حكومة يمينية متطرفة للقوى الفاشية فيها وزن كبير في تقرير سياستها. ليس هذا فحسب، بل إن نتنياهو بعد الفوز في الانتخابات وجد نفسه عالقا في تطورات على المستوى الإقليمي والدولي، من شأنها أن تدفعه إلى اختيار أهون الشرور. كان رهانه للعبور إلى الضفة الأخرى بنجاح على الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة الأمريكية. حساب الحقل هنا لم تتطابق مع حساب البيدر، فالموجة الحمراء التي توقعتها الاستطلاعات الأمريكية وراهن عليها لم تتحقق، فالحزب الديمقراطي فقد الأغلبية في مجلس النواب غير أنه لم يفقد الأغلبية في مجلس الشيوخ، الأمر الذي يدفع نتنياهو إلى التفكير مليا في الذهاب بعيدا في الانقلاب الثاني الذي جاءت به الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة بخطوات إسرائيلية أحادية الجانب يدعو لها شركاؤه الفاشيون الجد في الائتلاف الحكومي. فضلا عن ذلك فإن نتنياهو يزعم أن الاتفاقيات الإقليمية تشكل ركنا أساسيا من توجهاته وإرثه السياسي لتجاوز البحث عن تسوية مع الجانب الفلسطيني، وهي بهذا المعنى تزيد من تعقيدات المشهد، التي يجب عليه أن يراعيها في التسويات التي يبدي استعداده للدخول فيها واختيار أهون الشرور في اتفاقياته الائتلافية لتشكل حكومة هي الأكثر يمينية وفاشية في تاريخ دولته.
الآن، وبصرف النظر عن الصراع حول توزيع الحقائب الوزارية والمناصب وما يرافقها من صلاحيات، فمن الواضح أن دولة إسرائيل بدأت السير في طريق مختلف، فصورة الوضع في إسرائيل تتبلور أكثر فأكثر عن دولة تقترب من نقطة التحول إلى دولة شريعة ثيوقراطية تتوعد الفلسطينيين سكان البلاد الأصليين باعتبارهم أغيار بالمفاهيم التلمودية. مثل هذه الدولة لا تشكل خطرا على الفلسطينيين وحدهم بقدر ما تشكل خطرا على الأمن والسلم الإقليمي والدولي، ما بات يملي على الجانب الفلسطيني قبل غيره إعادة النظر بشكل جوهري في مواقفه من هذه الدولة ومن الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها معها بدءا باتفاق غزة – أريحا أولا عام 1993. خيارات الجانب الفلسطيني هنا يجب أن تبقى مفتوحة في مواجهة تمتد على مساحة فلسطين التاريخية ولا تستثني التحرك النشط والفعال على الساحات الإقليمية والدولية.
في هذا السياق تأتي خطوة التوجه إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة بالطلب من محكمة العدل الدولية تقديم فتوى أو رأي استشاري يحدد وجهة نظرها بشأن التداعيات المترتبة على تحول الاحتلال الإسرائيلي من احتلال عسكري مؤقت إلى احتلال استيطاني دائم الاحتلال في الضفة الغربية، كخطوة في الاتجاه الصحيح تعزز المطلب الفلسطيني إلى محكمة الجنايات الدولية بفتح تحقيق جنائي في جرائم الحرب التي ترتكبها قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين ضد المواطنين الفلسطينيين تحت الاحتلال وممتلكاتهم.
ليس هذا فحسب، فسياق التطورات الجارية تضع الفلسطينيين ليس فقط في الضفة الغربية بما فيها القدس وفي قطاع غزة، بل وفي فلسطين التاريخية كما في الشتات أمام مهمات جديدة ومختلفة عن سابقاتها وخاصة بعد أن تحول خطاب الاستيطان الاستعماري والكراهية والترانسفير والتطهير العرقي إلى خطاب رسمي في دولة إسرائيل ، ما بات يتطلب العودة إلى قرارات الإجماع الوطني والبحث الجاد والمسؤول في آليات ترجمتها إلى سياسة رسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية وهيئاتها ومؤسساتها والتفكير في الوقت نفسه بتشكيل جبهة قومية متحدة تضم جميع الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني وفي المناطق الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967 وفي الشتات، جبهة تكون مفتوحة لمشاركة جميع القوى والشخصيات التقدمية اليهودية في دولة إسرائيل، على محدوديتها بحكم محدودية الوضع الإنساني في هذه الدولة، تطرح على جدول أعمالها حقهم في تقرير المصير بمركباته الثلاث : حقوق قومية ثابتة وحقوق مواطنة ومساواة لأبناء الشعب الفلسطيني في الاراضي المحتلة عام 1948 وحقوق قومية ثابتة في الاستقلال والتحرر من الاحتلال والاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وحقوق قومية ثابتة في العودة للاجئين الفلسطينيين الذين هجروا من ديارهم وممتلكاتهم بالقوة العسكرية الغاشمة. وتبقى على أية حال قضية القضايا، التي يتوقف على حلها فرص النهوض بهذه المهمات الجسيمة، ألا وهي فتح حوار وطني فلسطيني يستكمل ما كان في الجزائر قبل أسابيع من أجل إنهاء الانقسام، الذي أفسد الحياة السياسية الفلسطينية وقدم خدمة لا تقدر بثمن للاحتلال.
{ عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك