شهدت البنوك عبر تاريخها الطويل تطورات عديدة في بنيتها وهياكلها وأساليب تقديم خدماتها، رافقت التطورات العلمية والتكنولوجيا والاقتصادية التي شهدها العالم، ولم تكن في يوم ما بمعزل عنها، وقد كانت ولم تزل نشاطاتها وتطوراتها تتسق مع التزامها بأربعة ضوابط أساسية ملازمة لها، وهي حماية أموال المودعين وتنميتها، وحماية رؤوس أموال المساهمين والسعي إلى تعظيم أرباحها، وإنفاذ توجيهات وتشريعات ونظم البنك المركزي في البلد الذي تعمل به، والانصياع إلى ضوابط وتوجيهات المؤسسات المالية والنقدية العالمية. لذا فقد كانت مواكبتها للتطورات التقنية التي شهدها العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين مدروسة ومثمرة، وبما ينسجم مع إرهاصات موجة التحرير المالي والاقتصادي وثورة المعلومات والاتصالات، الأمر الذي أسهم في اتساع نطاق ونمو الصناعة المصرفية، نتيجة استيعابها حجما متزايدا من المنجزات التكنولوجية والمعلوماتية، فشهدت تغيرا ملموسا في شكل العمل المصرفي، بالاعتماد المباشر على المكائن والمنصات ذاتية الخدمة في تقديم الخدمات المصرفية، وتطويرها بكفاءة عالية بغية ابتكار خدمات مصرفية مستحدثة، وتطور أساليب تقديمها بما يكفل انسياب الخدمات المصرفية من البنوك إلى العميل بدقة وسهولة ويسر، فضلا عن تحسين مستوى أداء البنوك، واتساع نطاق الخدمات المصرفية نتيجة انتشار خدمات الصراف الآلي في مناطق وأحياء تفتقر إلى الفروع المصرفية، فضلا عن خدمات البنوك الإلكترونية وتطور نمو الخدمات التي يتم إنجازها عبر شبكات الإنترنت، وغيرها من التطورات المتواصلة. حتى برزت إلى السطح ثورة التكنولوجيا المالية FinTech والتي عرفت بأنها جميع الابتكارات والمنتجات والخدمات المالية، التي تعتمد على التكنولوجية المعاصرة، وتؤدي إلى تحسين الخدمات المالية والمصرفية، ويتم إنتاجها خارج المؤسسات المالية والمصرفية التقليدية من قبل شركات مالية ناشئة، أو من قبل شركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات العالمية مثل Google وApple و Amazon و PayPal، وغيرها من شركات التقنية في مجالات الاتصالات والإعلام والتجارة الإلكترونية والتي وجدت في الخدمات المالية والمصرفية فرصا مواتية لتعظيم أرباحها، بما في ذلك التجديدات في مجال محو الأمية المالية والتعليم المالي، والخدمات المصرفية للأفراد، والاستثمار، وحتى العملات الافتراضية، وغيرها، وتمتد إلى برامج وتطبيقات معقدة مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة (big data). وأن أغلب خدماتها تمت في مجالات دفع الفواتير، وحلول الدفع عبر الإنترنت والأجهزة المحمولة، بالإضافة إلى المحافظ الإلكترونية، وإدارة الثروات، والتأمين ثم امتدت في مرحلة لاحقة إلى قطاعات أخرى مثل خدمات التنظيم والامتثال RegTech، والبنوك الرقمية، والتمويل الجماعي، والتمويل من نظير إلى نظير، وخدمات البلوك تشين والعملات المشفرة وهي في تطور متواصل.
وعلى صعيد مملكة البحرين فقد سعت الحكومة ومجلس التنمية الاقتصادية ومصرف البحرين المركزي والبنوك التجارية إلى مواكبة التكنولوجيا المالية عبر العديد من المبادرات المحفزة لتوطينها والتعاون مع شركاتها، والاستثمار في تقنياتها، وتطوير النظم والتشريعات والرقابة المصرفية لإيجاد بيئة تنظيمية مؤسسية وتشريعية ملائمة لها. ما عزز ذلك امتلاك مملكة البحرين لعوامل ومقومات النجاح التي تؤهلها للريادة في صناعة التكنولوجيا المالية إقليميا، والتي يأتي في مقدمتها، امتلاكها منظومة داعمة لهذه الصناعة في قمتها مصرف البحرين المركزي وما يتميز به من فاعلية وانفتاح وتعاون مثمر مع جمعية المصارف البحرينية، وعلاقات تفاعلية مع الهيئات والشركات والبنوك العالمية الأكثر خبرة في مجال التكنولوجيا المالية، فضلا عن العدد الكبير من البنوك والمؤسسات المالية المتوطنة في البحرين، والمتحفزة للحاق بالركب العالمي في مجال التكنولوجية المالية، وتسارع اعتماد الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية في القطاع المالي، وشركات الاتصالات المتطورة، وشركات الدفع الإلكتروني الناشئة، وشركات التأمين، وموفري البنية التحتية، وحاضنات ومسرعات الأعمال، والمستثمرين المبتكرين، ورواد الأعمال، وممولي المشروعات المتوسطة والصغيرة، فضلا عن الميزة النوعية الكبيرة التي تتمتع بها وهي الموارد البشرية الشابة المؤهلة، والذين يمثلون الركيزة الأساسية في صناعة التكنولوجيا المالية، والسوق الإقليمية الكبيرة التي تنفتح عليها. وقد نجح مصرف البحرين المركزي في تجسير العلاقة بين شركات التكنولوجيا المالية والعديد من البنوك البحرينية، وقد كان بنك ABC، في مقدمة البنوك البحرينية التي أدركت أهمية التكنولوجيا المالية ولعبت دورا محوريا مهما وبوقت مبكر في التعريف بفرصها وتحدياتها عبر تنظيمه في 29 مارس 2017م منتدى التكنولوجيا المالية الأول لمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا في البحرين تحت رعاية مصرف البحرين المركزي. وللموضوع بقية في مقال قادم إن شاء الله.
{ أكاديمي وخبير اقتصادي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك