في مؤتمر إسطنبول الأخير الذي جمع العديد من العلماء والنشطاء الفلسطينيين معًا لمناقشة سبل البحث عن رواية مشتركة عن فلسطين، أعلن عضو فلسطيني من الجمهور في نهاية مداخلة مقتضبة ولكنها نارية: «نحن لسنا هنودًا حمر».
كانت الإشارة قديمة نسبيًّا، وقد نُسبت إلى الزعيم الفلسطيني السابق ياسر عرفات خلال مقابلة في مكتبه في رام الله حيث تم احتجازه ومحاصرته بالقوة، قبل ذلك بعامين، من قبل الجيش الإسرائيلي الذي أعاد اجتياح المدينة الفلسطينية المكتظة بالسكان.
قال رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الفلسطينية في تلك المقابلة: «إنه على الرغم من محاولة إسرائيل اجتثاث الشعب الفلسطيني، إلا أنهم ما زالوا صامدين»، كما أضاف قوله: «إن إسرائيل «فشلت في القضاء علينا... نحن لسنا هنودا حمر».
على الرغم من أن نية ياسر عرفات لم تكن إهانة السكان الأمريكيين الأصليين، إلا أن البيان، الذي غالبًا ما يُخرج من سياقه، بالكاد يعكس التضامن العميق بين الفلسطينيين ونضالات التحرر الوطني، بما في ذلك نضالات السكان الأصليين في جميع أنحاء العالم.
ومن المفارقات أن ياسر عرفات هو أكثر زعيم فلسطيني أقام علاقات مع العديد من المجتمعات في جنوب الكرة الأرضية، بل وفي جميع أنحاء العالم. لقد ربط جيل من النشطاء عرفات بوعيهم الأول بالقضية الفلسطينية، قبل أن ينخرطوا في حركات التضامن مع فلسطين.
ما فاجأني هو أنه قد تم تناقل ذلك القول الذي قيل في إسطنبول بأن الفلسطينيين ليسوا «هنودا حمر»، وفي بعض الأحيان، استدعي تصفيق الجمهور، والذي توقف فقط عندما أعلن منظم المؤتمر، وهو أستاذ فلسطيني مرموق، محبطًا، أن الفلسطينيين ليسوا «حمرا» ولا «هنودا».
في الواقع، هم ليسوا كذلك. في الواقع الهنود الحمر هم الحلفاء الطبيعيون للشعب الفلسطيني مثل العديد من مجتمعات السكان الأصليين، الذين دعموا النضال الفلسطيني من أجل الحرية.
ومع ذلك، فإن الحادث الذي يبدو بسيطًا أو ينم عن سوء اختيار للكلمات يمثل تحديًا أكبر بكثير يواجه الفلسطينيين وهم يحاولون إعادة إحياء خطاب جديد حول التحرير.
منذ عدة سنوات، كان جيل جديد من الفلسطينيين يقاتل على جبهتين مختلفتين: ضد الاحتلال العسكري الإسرائيلي والفصل العنصري.
لكي ينجح هذا الجيل في استعادة النضال من أجل العدالة، يجب عليهم أيضًا استعادة خطاب موحد، ليس فقط لإعادة ربط مجتمعاتهم المجزأة في جميع أنحاء فلسطين التاريخية، ولكن أيضًا إعادة تأسيس خطوط التضامن للتواصل في جميع أنحاء العالم.
أقول «إعادة تأسيس»، لأن فلسطين كانت القاسم المشترك بين العديد من النضالات الوطنية والسكان الأصليين في الجنوب العالمي. لم تكن هذه نتيجة عشوائية.
طوال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، خاضت الشعوب حروب التحرير الضارية عبر القارات، ما أدى في معظم الحالات إلى هزيمة القوى الاستعمارية التقليدية، وفي بعض الحالات مثل كوبا وفيتنام والجزائر، إلى إنهاء الاستعمار الحقيقي.
تعتبر فلسطين حالة معقدة للإمبريالية الغربية والاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وقد وجدت القضية الفلسطينية الدعم والمؤازرة من حركات التحرر والنضال الوطني في شتى أنحاء العالم.
لقد كانت فلسطين ولاتزال حتى اليوم خير مثال على عمليات التطهير العرقي المدعوم من الغرب، والإبادة الجماعية، والفصل العنصري، والنفاق، كما أن القضية الفلسطينية كانت دائما تمثل مصدر إلهام لمقاومة السكان الأصليين من أجل الانعتاق والتحرر.
اشتهرت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية ومثقفوها ونشطاؤها وهم يحظون بالتقدير والاحترام في جميع أنحاء العالم كسفراء للقضية الفلسطينية.
بعد مرور ثلاث سنوات من اغتياله على يد الموساد الإسرائيلي في تفجير سيارة مفخخة في بيروت، حصل الروائي الفلسطيني غسان كنفاني بعد وفاته على جائزة اللوتس السنوية للأدب من قبل اتحاد الكتاب الآسيويين والأفارقة تجسيدا للنضال المشترك بين شعوب القارتين من أجل التحرر الوطني.
لم تكن فلسطين رابطًا ماديًّا بين آسيا وإفريقيا فحسب، بل عملت أيضًا كحلقة وصل فكرية وتضامنية. لعبت الدول العربية، التي خاضت أيضًا حروب التحرير الوطنية المؤلمة والبطولية الخاصة بها، دورًا رئيسيًا في مركزية فلسطين في الخطابات السياسية للدول الإفريقية والآسيوية.
دعمت العديد من الدول غير العربية القضايا العربية الجماعية، وخاصة فلسطين، كما دفعت في الأمم المتحدة إلى عزل إسرائيل، ودعمت حركات المقاطعة العربية، واستضافت مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية ومقاتليها. عندما بدأت الحكومات العربية في تغيير أولوياتها السياسية، حذت هذه الدول للأسف ولكن بشكل غير مفاجئ، حذوها.
أثرت التغيرات الجيوسياسية الهائلة التي أعقبت الحرب الباردة لصالح المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وتفكك الاتحاد السوفييتي بشكل عميق وسلبي في علاقات فلسطين مع العالم العربي وبقية العالم.
كما أنها قسمت الفلسطينيين، وأضفت الطابع المحلي على النضال الفلسطيني في عملية بدا أن إسرائيل وحدها هي التي تحددها في الغالب. وُضعت غزة تحت حصار دائم، وتم تقسيم الضفة الغربية عبر بناء العديد من المستوطنات اليهودية غير القانونية ونقاط التفتيش العسكرية، كما تم ابتلاع القدس بالكامل وأصبح الفلسطينيون في إسرائيل ضحايا لدولة بوليسية عرفت نفسها أساسًا على أسس عنصرية.
بعد أن تخلى عنها العالم وزادت إسرائيل في قمعهم وبعد أن هالتهم أحداث جسيمة خارجة عن نطاق سيطرتهم، انقلب بعض الفلسطينيين ضد بعضهم البعض. كان هذا هو عصر الشقاق. لكن في الحقيقة فإن الفئوية الفلسطينية أكبر من فتح وحماس ورام الله وغزة. وعلى نفس القدر من الخطورة على سياسات تخدم المصالح الضيقة، فإن الخطابات المؤقتة العديدة التي تبنتها القيادات الفلسطينية، لا تحكمها أي استراتيجية جماعية أو رواية وطنية شاملة.
عندما تمت الإطاحة بمنظمة التحرير الفلسطينية من لبنان في أعقاب الغزو الإسرائيلي والحرب المدمرة، تغيرت طبيعة النضال الفلسطيني. بعد أن اتخذت من تونس مقرا لها، لم تعد منظمة التحرير الفلسطينية قادرة على تقديم نفسها كقائد لحركة التحرير بأي معنى عملي.
جاءت اتفاقيات أوسلو المبرمة سنة 1993 كنتاج عن النفي السياسي وحالة التهميش اللاحقة، كما أنها أبرزت اتجاهًا قائمًا حيث تحولت حرب التحرير الفعلية إلى شكل من أشكال التحرر الجماعي، والوضع الزائف، والأسوأ من ذلك، الاستسلام عن طريق التفاوض.
أصبح هذا الأمر الآن مألوفًا ومعترفًا به من قبل العديد من الفلسطينيين. ومع ذلك، فإن ما هو أقل بحثًا هو أن ما يقرب من أربعين عامًا من هذه العملية تركت للفلسطينيين مع خطاب سياسي مختلف عن الخطاب الذي كان قائماً لعقود قبل إبرام اتفاقيات أوسلو سنة 1993.
لا شك أن الفلسطينيين يدركون الحاجة إلى لغة محررة جديدة. هذه ليست مهمة سهلة، كما أنها ليست عملية عشوائية.
إن التداعيات التي نتجت عن ثقافة أوسلو، واللغة الفئوية، والخطاب السياسي الإقليمي لمختلف المجتمعات الفلسطينية، ترك الفلسطينيين بأدوات محدودة للتعبير من خلالها عن أولويات العصر الجديد. فالوحدة ليست وثيقة سياسية ولا تضامنا دوليا.
إن الوحدة الوطنية عملية تتشكل من خلال لغة يجب التحدث بها بشكل جماعي بلا هوادة وجرأة. في هذه اللغة الجديدة، الفلسطينيون هم أمريكيون أصليون، ليس في نزوعهم المفترض إلى أن «يتم القضاء عليهم ومحوهم»، ولكن في كبريائهم ومرونتهم وسعيهم المستمر لتحقيق المساواة والعدالة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك