في رواية (سيرة المنتهى: عِشْتُها كما اشْتَهَتني!) للروائي الجزائري واسيني الأعرج يغادر السارد (واسيني) الحياة في رحلة العروج بحثًا عن جده الأكبر الرُّوخو الذي ينام في مرقده الأخير بجبل النار. يرى واسيني تابوته مكتوبًا عليه اسمه وتاريخ ميلاده ووفاته بالعربيّة واللاتينية وكلمة صغيرة كان يرددها دائمًا «لقد عشتها كما اشتهتني لأنَّها كانت الأقوى. لم أكن استثناءً عظيمًا في هذه الدنيا، ولم أكن إلهًا صغيرًا، لكني لم أمر على هذه الحياة كغيمة جافة». لم تحظّ النصوص الأخيرة للشاعر البحريني علي الشرقاوي باشتغالات نقدية جادة رصينة على مستوى تحليل الخطاب الإبداعي عنده، وأخص بالذكر تلك النصوص التي تتواشج بعمق لتسفر عن رؤيته الكونيّة الكبرى. وأعد نصه الملحمي (الغاجاراشا: ملحمة الغجر) واحدًا من نصوص التجليات الكاشفة لديه؛ إذ يتقمص الشاعر روح أحد أحفاد الغجر ويروي سرديتهم الكبرى التي يتماهى معها:
«ثلاثون عامًا وأكثر، وأنا في مياه الكلام
أغوصُ وأطفو، ثم أغوص لأطفو لأنظر، ماذا فعلتُ بذاك الغلام
وأذكرُ.. أنسى، ندى الاحتلام
رأيتُ صباي، رأيتُ الذي ما رآه سواي
رأيتُ أبي في دمي، وأمي التي تشبه الأرض
في حلمها، رأيتُ السماوات في حالة الابتسام».
ينحاز الشرقاوي في هذه الملحمة الكونيّة إلى سرد مغاير يغادر فيه عوالمه الممكنة الواقعية المرجعية والمتخيّلة في مسرحه الأسطوري التاريخي (السموأل)، و(البرهامة)، و(طرفة بن العبد)، و(تراجيديا المحرق) وغيرها. إنَّ ملحمته (الغاجاراشا) هي سردية كونيّة تحتفي بسردياتها الكبرى التي تجد فيها جذورها الأولى وهويتها السردية، وعندما تفقد السَّرد تفقد تلك الجذور. يشتغل الشرقاوي في هذه الملحمة على سبعة كتب كبرى بما للرقم سبعة من دلالات دينية مقدسة تحيل على بدء الخليقة (السماوات السبع) و(الأراضي السبع) وبما فيه من دلالات الكمال الروحي. وعلى امتداد هذه الملحمة المطوَّلة في تواريخ الارتحال والهجرات والشتات الغجري تفاجئك نصوص الشرقاوي التي تحاكي جلد المخطوطات العتيقة بأنَّها متمردة تحتفي بهامشيتها، وبأنَّها مغرقة في صوفيتها ومغرقة كذلك في عناصرها الكونيّة. إنَّ «هذه الورقات المنزوعة من جلد المخطوطات السرية، ليستَ ملحمة تستوطن حفريات الشك، وليستَ أغنية لفراديس القدمين، هي الجملة قبل تفرع ماء النطق، هي الظن الراكض كالقنفذ من رغبة ما كان إلى عشبه ما سوف يكون، لها بالتاريخ علاقة ماموث الفطرة بالقاموس، لها أرخيتُ الغفلة في هيجان الرأس، ولها أعطيتُ الهذيان عناوين الفتحة والضمة والفاصل والفصل، من الدم/ السرة، أعني سر الأسرار، دخلتُ محاطًا بالغفلة، أمرقُ بين مرايا الطفلة والطفل، مندهش العين ومرتعش القلب، إلى الهم رحلتُ، لأعرف ما لا أعرف، أو أكشف ما أكشف، ولا أرغب في أن أصل المعنى»، هكذا يعرَّف علي الشرقاوي ملحمته أو سرديته الكبرى!
{ أستاذة السَّرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك، كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك