مقال رئيس التحرير

أنـــور عبدالرحمــــــن
مع الوداع.. طاقة نور
في الجداريَّةِ الشهيرةِ «مدرسة أثينا» للفنانِ الإيطالي «رفائيل» في «الفاتيكان»، جمعَ الرسامُ كلَّ المفكرين والعلماء الذين أثروا في الغربِ في مكانٍ واحد، ومن بينهم الفيلسوفُ المسلمُ ابن رشد الأندلسي- قبل النهضةِ الأوروبيَّةِ بقرون- ليتذكر العالمُ اليوم أنّ أحدَ عرّابي عصر التنوير كان فيلسوفًا مسلمًا.
ويقول ابنُ رشد في كتابه تهافت التهافت: «من العدلِ أن يأتيَ الرجلُ من الحججِ لخصومه، بمثلِ ما يأتي لنفسِه»، وما أحوجَنا اليوم إلى فهمٍ متعمق لهذه القيم، ونحن نعيشُ لحظةً تاريخيَّةً تتجسدُ فيها الرغبةُ في إيجادِ طاقة نورٍ في نفقٍ مظلمٍ من الأفكارِ المتلاطمةِ التي تعصفُ بالبشرية، يسبحُ فيها الإنسانُ باحثًا عن شاطئ الأملِ في مستقبلٍ مستقر.
وهنا تبرزُ القيمةُ الحقيقيَّةُ للمبادرةِ الملكيَّةِ من حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المعظم، بالدعوةِ إلى عقد «ملتقى البحرين.. الحوار بين الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني»، تلك المبادرة التي تعززت بمشاركة قداسة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان وفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف، وعديد من القادة الدينيين ورموز الفكر، والتي تمثِّلُ وقفةً إنسانيَّةً مع الذاتِ لينتقلَ الفكرُ البشريُّ من محطةِ الصراعِ إلى محطةِ التعارف، ومن مرحلةِ الصدامِ إلى مرحلةِ التكامل، حتى تقدِّم هذه الحقبةُ من عمرِ التاريخ إسهاماتِها في البناء الإنساني للكون.
{{{
كم كان فضيلةُ الإمام الأكبر بليغًا عندما قال: «إنَّ الغربَ في حاجةٍ إلى حِكْمَةِ الشَّرقِ وأدْيانِه وما تَربَّى عليه النَّاسُ من قِيَمٍ خُلُقيَّةٍ، ونظرةٍ مُتوازنة إلى الإنسانِ والكون وخالقِ الكون، وهو في حاجةٍ إلى روحانيَّةِ الشَّرق، وعُمْق نظرته إلى حقائقِ الأشياء».
«والشَّيء ذاتُه يُقالُ عن الشَّرقِ، فهو في حاجةٍ إلى اقتباسِ علوم الغرب والاستعانة بها في نهضَتِه التِّقنية والماديَّة، واستيراد المُنتجات الصِّناعيَّة، من أسواقِ الغرب؛ كما يجبُ على الشَّرقيِّين أنْ يَنْظُروا إلى الغربِ نظرةً جديدة فيها شيء من التَّواضُع، وكثيرٌ من حُسْنِ الظَّنِّ والشُّعُور بالجارِ القريب، والفَهْم المتسامح لمدنيَّة الغرب وعادات الغربيِّين بحُسبانِها نتاج ظروف وتطوُّرات وتفاعُلات خاصَّة بهم دفعوا ثمنَها غاليًا عبرَ قرونٍ عِدَّة».
واستعانَ قداسةُ البابا فرنسيس بـ «شجرة الحياة» ذات المكانةِ الكبيرة في تاريخِ مملكة البحرين، لتأكيد أهمية قيم التعايش الإنساني بين البشر، وهناك رمزيةٌ أخرى في هذا الاستدلال الفصيح، وهي أهميةُ أن الإنسانية في حاجةٍ ماسةٍ إلى زراعةِ بذور الأمل في نفوس الأجيال القادمة، مروية بماء المحبة التي أكدها قداستُه خلال ترؤسه القداس الإلهي في استاد البحرين الوطني بحضور عشرات الآلاف من المسيحيين الذين أتوا من كل دول المنطقة، لافتًا إلى أن المسيحَ يعطينا القدرةَ على المحبة، أن نحبَّ باسمه، وأن نحب كما أحبّنا، من دون شرط، ليس فقط عندما تسيرُ الأمورُ على ما يرام ونشعرُ بالحب، إنما دائما، ليس فقط تجاه أصدقائنا والقريبين منا، بل تجاه الجميع، حتى أعدائنا.
{{{
تكللَ الملتقى بانعقادِ مجلس حكماء المسلمين على أرض البحرين برئاسة مشتركة من شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان، تحت عنوان: «الحوار بين الأديان وتحديات القرن الواحد والعشرين»، ويمثلُ اللقاءُ محطةً مضيئةً في مسار هذا الحوار لزراعة الأمل في ولادة صحوةٍ جديدة يستيقظُ فيها الضميرُ العالميُّ ليقومَ بدوره في مجابهةِ التحديات، مع تعدد الأزمات الدوليَّة، الإنسانيَّة منها والاقتصاديَّة والأخلاقيَّة، وأزمات البيئة والمناخ، وغيرها من المشكلات في ظل غياب مرجعيَّة عالميَّة جامعة ترشدُ الإنسانية إلى سلك الطريق القويم للوصول إلى الحلول الناجعة.
{{{
حملت البحرين رسالةَ سلامٍ إلى العالم من خلال إعلان جلالة الملك المعظم استعداد البحرين للإسهام بأي جهد لوقف الحرب الروسية الأوكرانية وبدء مفاوضات جادة لخير البشرية جمعاء، في تأكيدٍ جديد للقيم البحرينية الأصيلة التي تشعُّ بها أرضُ المملكةِ الطيبة، وتسعى لتنشرَ في ربوع الكون لنعمل، يداً بيد، لتحقيق أمل المستقبل المزدهر.
{{{
اليوم ونحن نودِّعُ بابا الفاتيكان وفضيلةَ شيخ الأزهر، نحملهما مسؤوليَّةً تاريخيَّةً لمواصلةِ العمل لتقوية مسيرة الأخوة الإنسانية، وإحياء سبل التقارب والتفاهم بين جميع أهل الأديان والمعتقدات كمدخلٍ أساسي لإحلال التوافق محل الخلاف، وإرساء الوحدة محل الفرقة.
ولتكن البداية مع الاستجابة إلى دعوة الإمام الأكبر لبدء حوار إسلامي- إسلامي جاد، تتبلورُ نتائجُه في تحقيق تقاربٍ حقيقي بين علماء الدين الإسلامي على اختلاف مذاهبهم، وتعزيز قيم التسامح غير المختلف عليها بينهم، ليتمكنَ مليارا مسلم في أرجاء الأرض من استعادةِ الماضي التليد لحضارتهم التي آثرت البشرية فكريًّا وثقافيًّا وعمليًّا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك