زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
موت الأب مناسبة للفرح
سأظل أتذكر باعتزاز كيف أنه وفي ذات مرة قال لي طفل في الرابعة تربطني بأهله صلة قرابة ونسب كلاما معناه «ليتك كنت أبي». أحزنتني تلك العبارة لأنها كانت تعبيراً عن ضيق الطفل بفظاظة أبيه، أكثر من كونها تعبيراً عن إعجاب بي، ثم قرأت في صحيفة إنجليزية ما قالته دافني واتس بمناسبة وفاة أبيها فرانسيس واتس: تمنيت لو سمحوا لي بأن أرقص فوق قبره، وأضافت «لكنني رقصت في البيت، منتشية فرحة»، ودافني هذه ليست طفلة بل امرأة في الواحدة والستين، مات أبوها قبل أربع سنوات، وعبرت عن سعادتها بموت أبيها لأنه استعبدها طوال 43 سنة، فمنذ أن بلغت الخامسة عشرة جعلها تعمل في مزرعته التي تتألف من تسعين إيكر (الإيكر يساوي نحو 4000 متر مربع): تصحو في الخامسة صباحاً، وتبدأ بتنظيف حظيرة الأبقار من الروث، ثم تقدم العلف للأبقار، وبعدها تحلب عشرات الأبقار. وتنتهي من مهمة وتنتقل إلى أخرى حتى مغيب الشمس، لتعود إلى غرفة ليست فيها تدفئة، وحمام ليست فيه مياه ساخنة، ولم يحدث قط أن اشترى لها أبوها ملابس جديدة، فكلما تقطعت ملابسها ذهب إلى محلات الملابس المستعملة واشترى لها بنطلوناً واحداً وقميصاً واحدا، وكان نصيبها من الطعام وجبتين يومياً، تقتصر في معظم الأحوال على اللبن الحامض، ولأن مسؤولين حكوميين كانوا يأتون إلى المزرعة لتفقد أحوال الماشية (طبعا للماشية حقوق، مثل حق الطعام الجيد والماء المفلتر)، وأحوال العاملين في المزرعة، فقد كان الأب يقدم ابنته إليهم على أنها «عامل» لديه، وكان يبرز لهم دفاتر توضح أنها تتقاضى الحد الأدنى من الأجر المنصوص عليه قانوناً، ولكنه كان في واقع الأمر يعطيها 12 بنساً في الأسبوع (الجنيه الإسترليني يساوي 100 بنساً)،أما كاثلين أم دافني وحرم الثور فرانسيس، فقد ماتت قبله بتسع سنوات، ولم تكن تبالي بالمعاملة السيئة التي تلقاها ابنتها، لأنها كانت تعرف أن فرانسيس اختارها زوجة، لأنها قوية البنية وقادرة على القيام بأعباء ثقيلة مثل قيادة الجرارات وتقليب التربة وبناء الحظائر، وخلط الروث لإعداد السماد العضوي لبيعه لأصحاب المزارع والحدائق.
لم يحدث قط أن اشترى الوالدان لدافني لعبة بلاستيكية أو آيسكريم، ولم تسمع بأشياء مثل البيرغر ودجاج كنتاكي والبيتزا إلا بعد وفاة والدها قبل أربع سنوات!! وكانت تحاول أن تسلي نفسها برسم بعض الأشياء على المعدات الزراعية، ولكن والدها كان يلزمها بشراء علب الطلاء على نفقتها الخاصة (يعني راتب سنتين لشراء علبة واحدة).
لدى دافني اليوم أموال ثابتة ومنقولة تقدر بالملايين، ولكن امرأة رضعت التعاسة والفقر لا تحس بأي سعادة، لأنها قادرة على امتلاك كل الأشياء التي نشأت محرومة منها.. فحتى بعد أن تركت المزرعة التي تقع في مقاطعة سومرست بإنجلترا، وانتقلت إلى بيت صغير في قرية قريبة، فإن الجيران لاحظوا أن بيتها يبقى مظلماً طوال الليل، ولما سألوها عن السر في ذلك قالت: إن إضاءة الشارع «البلوشي»، تكفيها لرؤية الأشياء حولها، ومازالت دافني تشتري الملابس المستعملة، وعندما يقول لها الجيران إنها ستترك ملايينها ليستمتع بها آخرون، تقول لهم إن ذلك لا يضايقها لأنها لا تعرف معنى السعادة!! ولا تجد متعة في شراء أو اقتناء شيء، لأنها بكل بساطة لم تسمع بمعظم المستجدات في عالم الأزياء والعطور والأواني المنزلية الكهربائية.
ذكرتني عائلة واتس التعيسة هذه بصديق قال لي إنه عند انتقال العائلة من بيت قديم إلى بيت جديد جميل لاحظ حرص أبيه على نقل أكياس كانت في مخزن مهمل، وكان يتساقط من الأكياس غبار نتن الرائحة، وسأل أباه عن محتوى الأكياس وعرف أنه جراد ظل الوالد يحتفظ به في المخزن نحو ثلاثين سنة «من باب الاحتياط للزمن»، وكان لذلك الوالد الملايين في البنوك، ومات ذلك الرجل وتخلص عياله من «بودرة» الجراد وملأوا الأكياس بالملايين التي تركها.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك