الصراع بين حاجة الأديب المُبدع لتلبية نداء روحه بإطلاق سراح مواهبه الإبداعية وبين حاجته لإشباع احتياجات حياته المادية التي تتطلب العمل في مجالاتٍ لا علاقة لها بمجاله الإبداعي (وأحيانًا لا علاقة لها بالإبداع من قريبٍ أو بعيد!) صراعٌ يزداد حدةً مع تعملُق أفعى الرأسمالية العولّميَّة، حيثُ يزداد التفافها حول وقت كل ذي نَفَسٍ إبداعي لتعتصره وتخنقه وتُرديه قتيلاً.
في زمنٍ مضى؛ عندما كانت القراءة والكتابة - ولا سيما الإبداعية منها- رفاهية بيد الأقليَّة؛ كان أكثر الأدباء الذين سمعنا عنهم يعملون في مجالات الكتابة الصحفية، مثل أنيس منصور، إحسان عبدالقدوس، غادة السمان، غسان كنفاني وآخرون، صحيحٌ أن بعضهم لم يبدأ من الصحافة لكنه سُرعان ما وجد به مقعدًا دائمًا يُقدره في بلاطها، إلا أن أحوال الصحافة تغيرت مثلما تغيرت أحوال كل شيء ولم يعُد للمبدعين فيها موطئ قلم إلا ضيوفًا إن قبلت استضافتهم ونشر نصوصهم أو مقالاتهم دون مُقابل أو بمكافأة زهيدةٍ مدعومة بألف وساطةٍ، كما لم يعُد بإمكان أديبٍ من الطبقة الكادحة أن يقتنص وظيفةٍ مكتبيةً بعيدة عن أعيُن الرقباء وزحام أفواج البشر مثل تلك التي عمل فيها أديب نوبل الأستاذ «نجيب محفوظ»، ويخرج منها مُتبعًا نظامًا يوميًا صارمًا قادرًا على حماية موهبته من التبدد.. لقد تضاعف تعداد سُكان الكرة الأرضية أكثر من مرَّة، وازدادت رغباتهم ومُتطلباتهم وشكاواهم بينما قل صبرهم في استقبال الخدمات المُقدمة لهم، وصار المُمسكون بأعلى الهرم في جِهات العمل يُحمّلون الموظف مسؤوليَّات ويُرهقونه بمهام أكثر مما كان يُكلَّف به الموظف في الماضي بحيث صار من الصعب مرور بضع دقائق خلال فترة الدوام المُحددة دون أن ينشغل بعملٍ يتطلب مجهودًا وتركيزًا باستثناء الفسحة القصيرة المخصصة للصلاة والغداء (أو العشاء إن كان دوامك ليليًا!)، وهي فسحةٌ تضن بها بعض جهات العمل على موظفيها إلا أن يختلسوها خِلسة وفي أضيق الحدود النادرة، فلا يعود إلى منزله إلا بذهنٍ غير قادر على استقبال المزيد، وجسدٍ يكاد ينهار من الإرهاق، وعقلٍ يُكافح لوقاية نفسه من الجنون، وبقايا طاقةٍ لا تكفي إلا رعاية التزاماته العائلية الضرورية، فلا يتبقى وقتٌ لقراءة أو كتابة أو أدنى محاولة من محاولة الإبداع الأدبي، عدا ما يتلقاه في مقر عمله من لومٍ وزجرٍ وتوبيخٍ وأوامر تحُط من مكانته الأدبيَّة وتتعامل معه مُعاملة «الروبوت» الآلي، لا باعتباره مشروع ثروة إبداعية وثقافية قومية تُباهى بها الأُمم! قد تكون في آخر السلم الوظيفي واحدة أو اثنتان من الوظائف التي تتطلب مجهودًا أقل ومواجهات أخف حدَّة مع عامة الناس؛ لكن فوق أنها تحط من شأن المستوى العلمي للمبدع قبل مستواه الأدبي فإن أجورها لا تكاد تُطعم خُبزًا طازجًا بمقاييس وقتنا الراهن، إن قبل المرء أن يعيشَ بها على وجبةٍ واحدة في اليوم على مدى شهرٍ كامل فليسَ أمامه إلا أن يتنازل عن هاتفه الذي لا يمكنه تسديد فاتورته، وأن ينام على الرصيف ما لم يكُن له أهلٌ يقيم في منزلهم لأنه لا يملك ما يُسدد به إيجار مسكَنٍ ولا فواتير كهرباء وماء، وعلى هذا سيفقد أيضًا قدرته على التواصل مع الأدب لأنه لن يملك ما يشتري به ثمن كتابٍ فضلاً عن جمع مبلغٍ يكفي لنشر كتاب!
إن الواقع العربي المنظور يجعل من استمرارية المواهب الأدبية أمرًا بعيد المنال، فالأديبُ أمام أحد خيارين: إما أن يُحلق بأجنحة خياله ويقرأ ويكتب ويُبدع لكنه يهلك جوعًا، أو أن يبيع روحه المُبدعة في صفقةٍ مع جنون الرأسمالية الحديثة ويكون عبدًا لإحدى وظائفها مُقابل أن يأكل ويشرب ويجد سقفًا ينام تحته بأمان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك