تعمد حسين عبدعلي أن يشاكس كعادته في المناورة والتواري مرة، وفي الإعلان والكشف تارة أخرى منطلقا من إعلان عنوان مسرحيته (هاراكيري)؛ ليدفع المتلقي قبل كل شيء أن يفكر في العنوان؛ فإما أن يستعين بمحركات البحث الإلكترونية عبر الشبكة العنكبوتية عن هذا الهاركيري، أم أنه ينتظر العرض ليقف على حقيقة هذا العنوان، أم أنه سيترك له التخمين واضطراب الأسئلة عن العنوان الذي لم يرد ولو مرة واحدة في العرض.
الكل متشح باللون الأسود ممثلين وفضاء المسرح، فهناك سوداوية مظلمة تجثم على الركح، ولا تغادره، والحدث الدرامي أكبر من قضايا المرأة، وأبعد من التشنج المجتمعي إزاء هذه القضية الممتدة عبر الحياة، بدءا بالمرأة التي بدأ بها العرض المسرحي بتشكل شخصيتها القلقة الصامتة المرتجفة، انتهاء بالخلاص الاختياري ووضع حد لسيادة القهر والعنف الجندري، وأراد عبدعلي أن يختزلها في بطلته التي تتعدد اختناقاتها مستمدا من قصص واقعية متداولة في المجتمعات العربية، مثل الاغتصاب، والزواج القسري، والنساء المعلقات، والمعنفات، والمطلقات، وضحايا وسائل التواصل الاجتماعي الخطرة وجلها الإناث، والنظرة المجتمعية المؤلمة التي تجثم على صدر المرأة، وتدفعها إلى اتخاذ أسوأ القرارات وتنفيذها.
حسين عبدعلي هنا لم يهادن الواقع، ولم يكن مخاتلا في رؤيته للحدث الدرامي، فهو يحفر بعمق في الحدث الدرامي التراجيدي؛ لا ليفتح كوة ينبثق منها الضوء، وتقدم جرعات من بصيص أمل ينتشل المرأة من واقعها الاجتماعي البائس، بل يحفر وبقوة ليعمّق المأساة، ويسد كل فجوة ممكن أن يتسرب فيها نور يحتضن المرأة، فالمحقق وموظفا الفندق ووالدها والقاضي، هؤلاء الذكور كلهم اجتمعوا عليها، وتصلبوا أمامها، واتخذوا مواقف سلبية حيالها؛ لتبقى وحيدة في مواجهة الزخم الشعوري المحبط؛ والانتكاسة المصيرية التي وجدت نفسها فيها، ولم يتركوا لها مجالا لمراجعة النفس، العمل لم يكن مولودراميا، بل كان واقعيا صريحا من قصص منتشرة، وربما هناك في الواقع أكثر تراجيدية مما ضمه العرض المسرحي، فهو وضع حدا صارما لتلك الحياة كما وضعتها الضحية الفتاة المصرية البريئة التي فضلت الانتحار على نظرة أهلها والمجتمع لها بعد أن فبرك أحدهم صورها ظلما وعدوانا ليبتزها من أجل غرائزه البهيمية في واقعة هزت المجتمع المصري والوطن العربي.
يتشكل مكان الحدث الدرامي الرئيس في فندق الذي يأخذ رمزية الإقامة المؤقتة، وربما السريعة التي تنم عادة على اللا استقرار، وذلك الفندق الذي يعبر منه إلى النهاية والخلاص، ففيه الابتعاد عن صخب الحياة، وفوضوية البشر، ونهاية العابرين والخلاص من ألم الحياة باختيار الطريقة المثلى للانتحار بهدوء وترو مع تدخين سيجارة أخيرة.
هنالك انتحر كثيرون وبطرق مختلفة، وقد اعتاد موظفو الفندق الذكور على رائحة الموت، من دون اشمئزاز أو ارتباك، ولم يقتصر الانتحار على العنصر النسوي، كالجدة وسواها، بل حتى العنصر الرجالي لهم نصيب، كطباخ المطعم.
ليس مهما أن يكون هناك أسماء لشخصيات العرض المسرحي، فعلى الجميع أن يتحسس نفسه، ويستشعر رقبته، ويفتش عن ذاته، وذاكرته في الفوضى المعيشية اليوم، وهي لا تقتصر على معاناة المرأة وقضاياها الكثيرة الممتدة عبر حقب التاريخ، بل هي تجسيد لكل البشرية المتخمة بالألم، وهذا ما يمكن قراءته من العنوان (هاراكيري) المتمثل في طريقة انتحار الساموراي الياباني الغريبة الدامية بعد هزيمته، إذ يفضل أن يشق بطنه بخنجره بطريقة (مقرفة)؛ ليستعيد كرامته، أو يطهر مساوئه وإخفاقاته العسكرية، وإن قلنا الساموراي فهو البطل والقائد الكبير، وهذا يذكرني بقول المتنبي متبرما:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
خلت خشبة المسرح من كل شيء سوى طاولة وكرسيين، تتشكل الأحداث عليها وحولها، فهي منطقة الألم التي تتكدس عليها الآلام والمعاناة، وليس غريبا أن تكون فيما بعد كفنا أو تابوتا كمكان مستقر للخلاص والسكينة بعد العذابات والمعاناة الأليمة؛ ولذلك كان التابوت أبيض (استعمال البانيو عادة للراحة والاستجمام) كما كان يرتدي محارب الساموراي أثناء الانتحار، والتي تدل على الدعة والسلام.
وهناك اشتغال مسرحي جميل في الإضاءة الخافتة المتنقلة، وقرع الناقوس الذي يشي بالقلق والارتياب، والعزف على الآلة الموسيقية الهرمونيكا أثناء رواية حادثة الاغتصاب ما يدل على حالة الاسترخاء للجاني، وما يقابله من ألم للضحية، وكانت مشهدية رائعة بإضاءتها المميزة حينما أطلقت البطلة الفقاعات البلورية الفارغة؛ لتصور لنا معنى الحياة المؤقتة التي تنتهي من دون جدوى، برغم جمالها وانسيابها وألوانها المختلفة؛ فتتلاشى بعد أن تكبر وتصعد إلى الأعلى، وتتطاير في الهواء بلا معنى أو غاية إلا إلى النهاية الطبيعية ودون أن تترك رغم جمالها ما يمكن أن يمكث بفائدة مرجوة، فهو تصور لعبثية الحياة التي يتلوى فيها الإنسان ألما ومعاناة طيلة بقائه، وكأنما وجد الإنسان ليشقى، وهذا ما يجعل أقراص البندول في متناول نازلي الفندق وربما الجميع يحمل تلك الأقراص المهدئة في جيبه لتخفيف الضغوط الحياتية وتعقيداتها.
لقد كثّف المخرج الفضاء المسرحي المسود والمتماهي مع الحدث الدرامي جاعلا من الظلمة غلافا لا خروج لأحد منه، فالموت أو الانتحار يتم ليلا، وقبل الشروق، والإضاءة كما ذكرنا محدودة النطاق المكاني، ليس بحاجة إليها كثيرا، إن المنتحر لا يحتاج إلى إعلان قبل الانتحار، ولا يحتاج إلى جلبة وإضاءة، وما يكفيه هو أداة تكون بسيطة، ولو كانت شفرة الحلاقة، وليس من الضروري استعمال تعقيدات لتنفيذه كالمشنقة أو طلقات الرصاص وغيرها.
لغة الحوار المسرحي كانت إجمالا عربية فصحى (تتعدد الأخطاء النحوية في الحوارات، وهذا لا يسلم منه عرض مسرحي باللغة العربية الفصحى) مع إقحام بعض الحوارات باللهجة العامية، وقد استخدمها بيضاء مفهومة للجميع، عدا كلمة (مضروبة) الطبق البحريني الشعبي المعروف، ولم يختر عبدعلي الاسم اعتباطا في رأيي بل لرمزيتها (اللغوية) اسم مفعول من الضرب، فهي تطلب تلك الطبخة لتبيان حالها المأساوي المعنّف؛ المتماهي معها؛ ولتشير إلى قسوة واقعها (الضرب والعنف ضد النساء)، وقد لطمها فعلا حبيبها الخائن، واستخدم القوة معها أثناء الاغتصاب وسط نداءات الترجي والاستعطاف لئلا يواصل فعلته اللعينة.
وتبقى هنالك إشكالية قذفها المؤلف / المخرج في ساحة المتلقي المتمثلة بحالة قيمية إنسانية، وهي حق الإنسان في اختيار طريقة نهاية حياته، وهل الانتحار مقبول كقيمة أخلاقية، وهل ممكن تبرير ذلك إنسانيا، ومن المؤمل ان تتضارب الآراء وتتنافر انطلاقا من الحالة الثقافية والقيمية للمتلقي، وربما ينقسم المتلقون إلى متفهم لما أقدمت عليه البطلة، وقسم يراه عملا جبانا يدل على ضعف الإرادة، والشخصية المهلهلة.
مسرحية (هاراكيري) عرض جميل استطاع المؤلف/ المخرج أن يوازن بين الحدث الدرامي وفنيات الإخراج الإبداعية، وإجادة الممثلين لأدوارهم، وتعايشهم معها، مع تركيزه في هذه المسرحية على إبراز القضية الإنسانية من دون مواربة ولا غموض، وجعلها بارزة، ولم يتعمق كثيرا في الرمزية بحيث يخفي القضية الإنسانية الكبرى، ولم يقشر البرتقالة ليلقمها المتلقي بسهولة، بل ترك أسئلة وإيحاءات تحتاج إلى أن يعمل المتلقي فكره في تفسيرها ومقاربتها. لا غرابة في أن يبدع الأستاذ حسين عبدعلي وطاقمه الجميل في هذا العمل وسواه، فهو الفنان المسرحي ممثلا ومخرجا وكاتبا، وكذلك السينمائي تمثيلا وإخراجا، والروائي والقاص والشاعر والرسام التشكيلي والمثقف المطلع والمتابع للشأن الفني والثقافي والناقد إضافة إلى تخصصه في مجال الإعلام، متعدد المواهب والإمكانات ما يجعل أعماله منبثقة من رؤية فنية عميقة ودقيقة تحتاج دائما إلى الوقوف عليها ودراستها بدقة ومسئولية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك