لقد أقرَّ الإسلام مبدأ الحوار وفَعَّلَهُ في كثير من آياته وسوره فقال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل/125.
لم يكتف الحق سبحانه وتعالى بتقرير المبدأ -مبدأ الحوار- بل رسم للمتحاورين والمتجادلين السبيل الذي ينبغي عليهم أن يسلكوه إذا أرادوا الوصول إلى كلمة سواء تطمئن إليها نفوسهم وترتاح إليها عقولهم فجعل الحق سبحانه وتعالى من الحوار السبيل الأمثل إلى حل المشكلات التي قد تنشأ بين الناس كل يدلو بدلوه بعد أن يتجرد كل فريق من قناعاته الخاصة ويبدؤوا الحوار من أرضية مشتركة ثم يبدؤوا الحوار بنية الوصل إلى الحقيقة المطلقة التي ينشدها كل فريق ومن أجل أن يؤتي الحوار ثمرته المنشودة فعلى كل فريق أن يكون مستعدًا للتنازل عن بعض قناعاته حتى ينتهي الحوار أو الجدال إلى الغاية التي يسعى إليها المتجادلون وحتى يتحقق ذلك فلابد من أن يلتزم المتحاوران بأدب الحوار الذي نصت الآية الجليلة عليه في قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل/125.
إذًا فالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن هذه كلها من أخلاقيات الحوار الذي يدعو إليه الإسلام ويحرص عليه حتى تستقيم الحياة بين الناس.
والإسلام كما يحرص على تنظيم العلاقات بين المسلمين فهو كذلك يحرص على تنظيمه بين المسلمين وغيرهم من الأمم يقول سبحانه وتعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن...) العنكبوت/46. لقد اعتمد الإسلام الحوار كوسيلة لحل المنازعات بين الناس وإطفاء نيران الفتنة بينهم لأنه الوسيلة المثلى للمحافظة على وحدة الأمة بل حتى في الأسرة وما ينشب فيها وبين أفرادها من صراع وخصومات بين الرجل وزوجه وربما ينتقل الصراع أو الخلاف إلى الأبناء فيعكر صفاء الأسرة وينغص عليهم حياتهم.
والإسلام بعد أن أقرَّ مبدأ الحوار وشجع عليه وبَيَّنَ طرقه ومسالكه قَدَّمَ لنا أمثلة على ذلك في سورة تحمل عنوان «المجادلة» قال تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) المجادلة/1. وهذه السورة تحكي قصة امرأة قال لها زوجها: أنت عليّ حرام كظهر أمي! وهذا طلاق بائن في الجاهلية لا تحل به المرأة لزوجها بعد ذلك وتحرم عليه قالت المرأة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): إن زوجها قال لها أنت عليّ حرام كظهر أمي ولي منه أطفال إن ضممتهم إليَّ جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا وهو الآن نادم على ذلك فما السبيل إلى عودة الرابطة الزوجية وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول لها: ما أراك إلا قد حرمت عليه فكانت تتوجه إلى الله تعالى بشكايتها حتى نزلت سورة المجادلة بشأنها وذلك بقوله تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير (3) فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم (4)) المجادلة.
وبذلك بطل العمل بهذا اليمين لأن هناك استحالة أن تكون الأم كالزوجة وهذ ما بَينَّهُ الحق سبحانه وتعالى في قوله: (الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور) المجادلة/2.
وهكذا أبطل الإسلام عادة جاهلية كانت السبب في هدم أسر وتشتيت أطفال وإهدار لحقوقهم هم وأمهاتهم بغير حق.
وهذا هو شأن الإسلام يصحح أوضاعا شاذة ويؤسس لنظم سليمة راشدة ولأن الحقيقة التي لا يختلف عليها أصحاب العقول الرشيدة أن الأم ليست كالزوجة وأن الإسلام أباح للرجل من زوجته ما لم يبحه له من أمه ووصف الحق سبحانه هذا اليمين بقوله: إنه منكر من القول وزورا!!
وهكذا نالت هذه المرأة التي نزلت بسببها هذه السورة شرف الدفاع عن حقوق النساء والجرأة في بسط قضيتها وقضية من سيجيئ بعدها من النساء وكانت السبب في إبطال عادة جاهلية جائرة وتصحيح مفاهيم مغلوطة كان الرجال يتعسفون في استخدامها.
وهكذا أقر الإسلام الحوار والمجادلة وفق الشروط والضوابط التي أوصى بها في أي نقاش أو جدال تحتاج إليه الأمة وتلجئوها الضرورة إليه.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك