كانت -ولاتزال- قضية الأمن الغذائي تستحوذ على جل اهتمامات دول العالم لسبب مؤداه أنه إذا كانت جائحة كورونا منشأة لذلك التحدي بما رتبته من توقف سلاسل الإمداد لعدد من الدول التي تعتمد على احتياجاتها الأساسية من الغذاء عبر الاستيراد فإن الأزمة الأوكرانية كانت كاشفة لخطورة ذلك التحدي ومداه، فالمسألة لم تعد ترتبط باستمرارية الإمدادات فحسب بل بعوامل اقتصادية وأخرى سياسية، لم تكن العديد من دول العالم بمنأى عنها حتى تلك التي لديها قدرات مالية تمكنها من تأمين احتياجات مواطنيها من الغذاء وفي مقدمتها دول الخليج العربي التي وإن توافرت لديها فوائض مالية نتيجة ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية جراء الأزمة الأوكرانية فإنها في الوقت ذاته تواجه ارتفاعاً مضطرداً في أسعار الحبوب يفوق نسبة الزيادة في أسعار النفط، صحيح أنه من الصعوبة بمكان الحديث عن اكتفاء ذاتي لدول الخليج العربي من الغذاء في المدى المنظور نتيجة عوامل عديدة منها عدم توافر الكثير من الأراضي الزراعية الصالحة للزراعة وندرة المياه وملوحتها والتغيرات المناخية إلا أن ذلك لا يعني حتمية انتهاج مسارات تكاملية خليجية لتحقيق الأمن الغذائي، ومع الأخذ في الاعتبار أن تقارير منظمة الأغذية والزراعة «الفاو» قد جاءت في معظمها إيجابية عن دول الخليج العربي سواء ما قبل جائحة كورونا أو ما بعدها ومجملها أن دول الخليج العربي لديها القدرة على الاحتفاظ باحتياطات كبيرة من السلع الأساسية لمدة تصل أحياناً إلى 12 شهراً كمخزون في حالات الطوارئ والأزمات، فضلاً عن اهتمامها بصناعات تحضير الأغذية، بالإضافة إلى قدرتها على تقديم تدابير تحفيزية على فترات زمنية ممتدة وهو ما قامت به بالفعل حكومات تلك الدول ضمن إدارتها لأزمة الأمن الغذائي خلال جائحة كورونا، فإن الأزمة الأوكرانية كانت تحدياً آخرا لما سببته من ارتفاع أسعار الحبوب عالمياً حيث ازدادت أسعار القمح بنسبة تجاوزت 37% وهي لم تحدث منذ 14 عاماً في ظل كون روسيا وأوكرانيا تمثلان 30% من صادرات القمح لدول العالم وعلى نحو خاص للشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا، بل إن بعض الدول الخليجية التي لا تستورد القمح من روسيا وتعد أستراليا وجهتها الرئيسية فإنها واجهت ارتفاعاً ملحوظاً في الأسعار لسبب بسيط وهو زيادة الطلب العالمي على القمح ومن ثم المسألة في النهاية تخضع للعرض والطلب، ويعني ما سبق نتيجة مهمة وهي أن تحقيق الأمن الغذائي لا يرتبط بقدرات الدول فحسب بل يتشابك مع الواقع الإقليمي والعالمي بشكل ملحوظ بما يعني ضرورة التفكير في استراتيجيات إقليمية للتكامل بشأن تحقيق الأمن الغذائي الذي أضحى جوهر الأمن القومي للدول كافة، لا أود الخوض في أرقام ربما تكون معروفة للجميع بشأن استهلاك الزراعة لنسبة كبيرة من مصادر المياه المتاحة في دول الخليج العربي وغيرها من التحديات الأخرى إلا أن هناك مسارات أو بالأحرى دروساً مستفادة سواء من تداعيات جائحة كورونا أو جراء الأزمة الأوكرانية، تلك المسارات يمكن حال تكاملها أن تمثل أسساً لاستراتيجية خليجية متكاملة لا متنافسة بين الدول الست بشأن مواجهة تحدي الأمن الغذائي وأولها: أهمية العامل الجغرافي ضمن مساعي الاستثمار الزراعي في الخارج ، فعلى الرغم من كونه يعد آلية مهمة لتحقيق الأمن الغذائي إلا أنه ربما يصبح غير ذي جدوى حال حدوث حالات إغلاق وتوقف سلاسل الإمدادات وبالتالي فإن الاستثمار في دول ذات النطاق الجغرافي يعد بديلاً مهماً، وثانيها: مع أهمية اتخاذ قضية الأمن الغذائي في بعض دول الخليج اهتماماً تشريعياً من خلال إقرار التشريعات اللازمة للتعامل مع ذلك التحدي بمنظور متكامل، وكذلك بعداً مؤسسياً من خلال استحداث وزارة مسؤولة عن الأمن الغذائي كما هو الحال في دولة الإمارات العربية المتحدة ، فضلاً عن النهج الاحترازي المتمثل في إسراع كل الدول الخليجية بتأسيس مخزون استراتيجي من السلع الأساسية فإن هناك تباينا بين تلك الدول في إتاحة الفرصة للقطاع الخاص للاضطلاع بمهامه في عمليات التصدير والاستيراد وهو القطاع الذي أثبت نجاحاً كبيراً سواء في بعض دول الخليج أو في دول عربية أخرى وذلك تكاملاً وليس تنافساً مع القطاع الحكومي، وفي تقديري أنه حال إتاحة المزيد من الفرص للقطاع الخاص فإن ذلك بالإضافة إلى كونه تعزيزاً للتنافسية بما ينعكس بشكل إيجابي على توفير الاحتياجات الأساسية من الغذاء فإنه في الوقت ذاته سوف ينعكس على جودة الغذاء وهو أحد مضامين الأمن الغذائي، وثالثها: إمكانية تأسيس شركات خليجية مشتركة في مجال إنتاج وتوزيع الغذاء يمكن من خلالها صهر القدرات الخليجية في إطار واحد يتم من خلاله تحديد المزايا التي تتمتع بها كل دولة والتي تتناسب بشكل كبير مع عملية إنتاج الغذاء ذاته والتي تمر بمراحل عديدة بما يحقق هدف التكامل، ورابعها: تبادل الخبرات في مجال توظيف التكنولوجيا في تعزيز الإنتاج الزراعي وذلك بالنظر إلى تشابه ظروف دول الخليج من حيث الإمكانات والقدرات المتاحة للزراعة، وخامسها: توظيف البحث العلمي الخليجي في مجال دعم الإنتاج الزراعي سواء من خلال إدخال مناهج نوعية حول أساليب الزراعة الحديثة ضمن المؤسسات التعليمية في دول الخليج أو تخصيص جوائز سنوية على مستوى دول الخليج العربي لأفضل البحوث في المجال الزراعي لحفز الاهتمام وتنمية الوعي بذلك المجال كونه قضية وطنية تهم المؤسسات كافة، ومع الأخذ بالاعتبار وجود مقترحات مهمة لتحقيق الأمن الغذائي على المستوى الخليجي الجماعي ومن ذلك مقترح دولة الكويت بإنشاء شبكة أمن غذائي موحدة لدول الخليج العربي وغيرها من المقترحات الأخرى فإن ثمة حاجة إلى التنسيق بين دول الخليج ضمن تهديدات البيئة الإقليمية وتحولات البيئة الدولية والتي تنعكس بلا شك على واقع الأمن الغذائي الخليجي، وتربط التهديدات الإقليمية بشكل أساسي بأمن الموانئ والممرات البحرية الاستراتيجية التي تعتمد عليها دول الخليج بشكل رئيسي في استيراد معظم احتياجاتها من الغذاء بما يعنيه ذلك من ضرورة وجود خطط خليجية للتعامل مع أي تهديدات ومنها الإرهاب السيبراني، بينما ترتبط تحولات البيئة الدولية بأزمات أو صراعات إما تؤدي إلى وقف سلاسل التوريد أو ارتفاع أسعار الحبوب الرئيسية بما يملي على دول الخليج التنسيق فيما بينها عند التعاقد مع الوجهات الأساسية للاستيراد ويعد ذلك ضمانة أساسية لعدم انقطاع سلاسل التوريد بشكل كامل حال حدوث حالات انقطاع مماثلة لجائحة كورونا.
ومجمل ما سبق إن قضية الأمن الغذائي في دول الخليج العربي ترتبط بسياقات محلية وإقليمية ودولية يتعين قراءتها بشكل متكامل عند صياغة استراتيجية خليجية شاملة للأمن الغذائي.
} مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك