أينما يممت وجهك تجد إبداعات أبناء الفرات، تسبغ عليك تلك الهالة من الضوء، تمتلئ بطاقة الفرح لتبدأ أول خطوات الفضول وحب الاكتشاف، الأكثر من هذا تلك الحالة التأملية غنية التفاصيل بما تحمل من تعب الحياة ومكابدة أوجاعها، ورطة لحظاتها المراوغة وفرحها المؤقت كما طير على سعفة في مهب الريح. هكذا هي أولى التفاصيل والإرهاصات الملونة التي تختال أمامك حينما تتلمس طريقك في عوالم د. صبري حمد خاطر السردية.
ربما هي انشغالاته بالمجال القانوني وبعض هموم الحياة تصرفه عن التفرغ لعوالم القصة، فهو عندما يكتب إنما يقوم بعملية حفر تهدف إلى معرفة كنه الأشياء والمجودات وتحولات الطاقة البشرية من السلب إلى الإيجاب وطبيعة استدعاء الصراعات الحياتية التي تتناهب الشعور والوجدان، ليس فعل الكتابة ها هنا أن نرصد الفعل المرئي، بل الانشغال بما هو أعمق غوراً في محاولة لتفسير لغز الحياة.
هذه النتوءات المرضية أو تلك الاختلالات التي تهاجم اطمئنانا اليومي، ينشغل بها «خاطر» ينقب دواخلها ويسلط عليها بؤرة حبره وفكره، في قصة (هكذا تكلمت الربابة) بطل القصة شاب يهمل مستقبله ويمضي بعيداً في غربة الذات مع واقعه، يترك خلفه البيت والأسرة والمدرسة كي يستمع فقط إلى عجوز وحيد يعزف الربابة.
تعتمد هذه القصة ثيمة مهمة تكاد تسيطر على إنسان هذا العصر، «الغربة - الاغتراب» ذاك الشعور المخترق لباطن الفرد حيث ينشب أظافره في لا وعيه، وجوده ينحصر في حالة رياضية بحته، هو مجرد رقم من هذه الجموع الغفيرة التي تمشي طريق الحياة المكتظة بالمتاعب والحزن، فرحها قليل، وجعها أكثر مما نحتمل؟! استيعاب الثيمة السالفة الذكر ضمن سياق الحدث، يعطينا فكرة جلية عن هذا الالتحام اليومي الذي يهجسه «خاطر» وكيف يعيد توظيفه سردياً بالاعتماد على الذاكرة المشبعة برائحة جغرافية (المكان = العراق) هي من تفرض طابعها وخصوصيتها الثقافية. مع عدم إغفال رمزية «الربابة» في الموروث البدوي العربي، صوتها حنين مسافر يخترق حاجز الزمن وكأنما الفتى المعاصر يرغب بالهرب من واقعه!
على ذلك.. فعل الغربة + الهرب = إن جاز لنا التعبير، «سيكولوجية الإرهاق الحياتي المعاصر» الذي نعيشه اليوم وندفع ضريبته بصمت متقبل، العديد من الدراسات النفسانية ترجع أسباب الأمراض التي تصيب الإنسان إلى تعاظم القلق والشعور بالكآبة وافتقاد الأمان النفسي. بطل قصتنا الشاب المسكين، يعاني تباريح غربته.. ((نظراً إلى ما شهدته المجتمعات في السنوات الأخيرة من تغيرات سريعة في العديد من المجالات، عجز الإنسان عن مواجهتها والتكيف معها أو السيطرة عليها. ما أدى إلى شعور الإنسان في هذا العصر بالاغتراب، حيث الـلامعيارية والـلامعنى والـلاهدف والـلاانتماء واليأس والعزلة الاجتماعية والغربة عن الذات و فقدان الهوية.. إلخ )) * (1).
يكاد واقعنا الراهن يتشعب بكثرة الاختناقات الداخلية التي تشغل تفكير المرء، فليس غريباً أن نغرق في حالات العبث والـلاجدوى، خطاب القصة «هكذا تكلمت الربابة»* (2) أعطى فكرة واضحة، أراد من خلالها كاتبنا إطــلاق صرخة مدوية، محملة بالعديد من الدلالات كما رأينا.
(شخصية الشاب.. من ؟!)
الوقوف عند شخصية البطل برأيي يكتسب أهمية كبيرة حتى نستوعب أكثر الدلالات عمقاً في المتن، حقيقة.. أشعر أن حالة الشاب، تشاغب عقلي بالعديد من التساؤلات، نصف واقعها يكتسيه الغموض؟ الكاتب تركها حرة التصرف ولم يمارس تلك الأبوية الفوقية التي عادة ما يمارسها «السارد العليم»، وفق هذه الحالة الشخصية تتعاطى فعلها الحياتي باستقلالية نسبية تخرج عن نطاق سيطرة الكاتب ذاته، «خاطر» يعي هذه المحركات الفنية في سياق القص، فبعض الغموض الذي يحيط الشخصية يعطي إرهاصات مبكرة تخبرنا أننا أمام بذرة عمل روائي قابل لكي يعيش حياة أطول من مجرد قصة قصيرة.
القصة تمارس فعلها في المتلقي من منطلقات تفاعلية في إيقاعاتها المختلفة على أكثر من صعيد، منها الاجتماعي والنفسي، حيث هذه الاستدعاءات تمسك بزمام الماضي كعنصر غائب من حياة الشخصية المتورطة في مأزق الحاضر، شخصية الشاب أهي تعاني فقط من غربتها الاجتماعية أم هناك أكثر من غربة تحاصر أنفاسها ووجودها؟ ها هنا تكمن جمالية الروح السردية، باذخة العطاء فيما يقدمه حبر د. خاطر، يعطي قارئه جرعات من فتنة السرد العراقي المعاصر، حيث لا يستعجل كشف أوراقه، لأن القصة في مفهومه الحياتي ربما تكون.. حبيبين في نشوة ضوء القمر مع «التانغو» يرقصان فرحاً بالحياة، كلاهما يخبئ أسراره إلى حين! إن دور الأب في القصة بدا سلبياً و بعيداً عن فهم عالم ابنه الشاب، فهو مشغول البال بالتفكير في أمور حياتية عابرة غير ذي أهمية، لكن لم يعد يعرف أداء ابنه الدراسي أو في أي مرحلة وصل به التعليم؟!
هذه القصة بالرغم من أنها سارت بشكل سريع، لكن نهاية عازف الربابة كشخصية ثانوية تركت خلفها العديد من الأسئلة.. ماذا أضاف الكاتب بوجودها على مسرح القصة؟ وإن كان لابد من وجودها، فكيف تذوي بهذه السهولة وتموت؟ هل هناك حالة رمزية محددة يضمنها «خاطر» نصه ثم يختزلها في عمق شخصية صاحب الربابة؟
هو مجرد عجوز، لكن.. عندما يختار الوحدة ويترك خلفه عائلته، فهناك قصة أخرى غير مروية تتوارى في الظل! جوانب عديدة تكتنف هذه القصة تجعل من تحليلها وتشريح أبعادها بوجهة نظري، قاصرة من طرفي حيث لا أملك غير رؤيتي الانطباعية، أقيس على ضوئها ما هو بارز على السطح. إن انفعالات السارد في القصة كما يتبين لي، تكشف تلك المراحل الموغلة في العمق النفسي والاجتماعي الذي يفتش في ثناياه «خاطر» عملا ً بغائية نبيلة يتوخاها الكاتب، تحتم عليه مواجهة أخطاء مجتمعه بالكلمة.
«خاطر» يريد حسبما أعتقد من متلقيه، أن يتأمل القصة كي يخرج من روتينه اليومي، هذا الأمر يستفز ذاكرتي الساعة، أجد ها هنا تشابهاً بالسياق مع واحدة من أغنيات العملاق الأمريكي (فرانك سيناترا) حيث يريد الهرب من روتينه الحياتي ليلتقي صديقا قديما و يحتسي معه كأساً، ليس لأجل شيء سوى الهرب من جمود حياته التي تزدحم بالغربة. تماماً كما حالة هروب الشاب من اكتساب العلم، يبحث عن عازف الربابة العجوز كي يطرد شبح غربته هو الآخر.
د. صبري خاطر قاص جميل الروح، حينما يكتب القصة «وهو مقل في ذلك» يضع متلقيه في عالم خاص ودافئ لا يمكن أن يتكرر بذات النكهة في متعة الاكتشاف الأدبي، هكذا تبدأ الكتابة بتقديم فلسفتها وتنأى بنفسها عن ما هو مستهلك ومكرر، هكذا كتابة هي ما «يعلمنا» حقا تلك الدروس الحياتية القيمة التي ترتقي بذوقنا الثقافي العام.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك