ما بين قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن حظر واردات النفط والغاز الروسيين إلى الولايات المتحدة ابتداءً من 8 مارس 2022م والبيان الختامي لقمة الاتحاد الأوروبي 10-11 مارس 2022 والذي تضمن اتفاق القادة الأوربيين على التخلص التدريجي من الاعتماد على واردات الغاز والنفط والفحم من روسيا، يثار تساؤل مفاده: كيف يمكن لقضية الطاقة أن تعيد رسم ملامح المشهد العالمي على المديين القريب والبعيد. بادئ ذي بدء لم تكن الأزمة الأوكرانية منشئة للجدل حول تلك القضية بل كاشفة لأبعادها وتداعياتها سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي، صحيح أنه لم تخل استراتيجيات الأمن القومي للدول الكبرى والتنظيمات الإقليمية عبر عقود مضت من الحديث عن تهديدات أمن الطاقة وتحديد سبل مواجهتها، إلا أنه بنظرة فاحصة على تلك الاستراتيجيات وجدت أن جل تركيزها كان الحديث عن تهديدات أمنية سواء لمصادر الطاقة أو طرق نقلها من مناطق إنتاجها إلى مستهلكيها.. ربما تطورت مضامين تلك الاستراتيجيات بالحديث عن تهديدات الأمن السيبراني، إلا أن القليل منها لم يتناول التعامل مع إدارة أزمة لأمن الطاقة على المستوى العالمي.. وهذا هو جل المقال.
منطقة الخليج والمنطقة العربية كانتا اختباراً حقيقياً لحرص الدول الكبرى الحفاظ على أمن الطاقة ابتداءً بالحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينيات والتي شهدت في أحد فصولها استهداف ناقلات النفط الخليجية من جانب طرفي الحرب بلغت 309 هجمات ما حدا بإدارة الرئيس ريجان لتشكيل ما عرف «بعملية الإرادة الجادة» كتحالف من الدول الراغبة في حماية تلك الناقلات، ومروراً بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لتحالف دولي ضم 34 دولة لتحرير دولة الكويت عام 1991 بالنظر إلى مخاطر الغزو العراقي آنذاك على أمن الطاقة في الخليج العربي، وانتهاءً بالتدخل الأطلسي في الأزمة الليبية عام 2011، وكان في أحد جوانبه الحفاظ على تدفق النفط الذي بلغ سعره آنذاك 120 دولاراً للبرميل. ومع أهمية تلك التحالفات فإنها استهدفت ممارسة الردع لحماية ذلك المورد الحيوي من تهديد بانقطاع الإمدادات بما يعني أن تهديد تدفق النفط للدول المستهلكة قد اعتبر خطا أحمر، لكن السنوات اللاحقة لعام 2011 شهدت تهديدات جديدة.. صحيح أنها لم تكن حالات انقطاع لكنها اتخذت أشكالاً ثلاثة أولها: استهداف منشآت الإنتاج ذاتها وناقلات النفط، من ذلك استيلاء جماعة إرهابية على حقل غاز أميناس عام 2013 أكبر حقول الغاز في البلاد، وهي الأزمة التي أدارها الجيش الجزائري ببراعة آنذاك، ووصولاً إلى استهداف المنشآت النفطية التابعة لشركة أرامكو السعودية عام 2019، وكذلك استهداف ناقلات النفط في منطقة الخليج في أعوام 2019 و2020 و2021، وثانيها: تأثير الطاقة على مسار الصراعات وأنماط التحالفات. ويقدم الصراع في شرق المتوسط نموذجاً لذلك. صحيح أن لذلك الصراع جوانب تاريخية وأخرى ذات جانب جدلي بشأن تطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982، وثالثة بشأن مخاوف أمنية، إلا أن العامل المحرك لتلك المسائل كان هو الاكتشافات الضخمة للغاز الطبيعي في تلك المنطقة الاستراتيجية من العالم، وثالثها: توظيف موضوع الطاقة في الأزمات، وهي قضية -برغم أهميتها- لم تحظ بنصيب وافر من الاهتمام من استراتيجيات الأمن القومي المشار إليها. بمعنى آخر: كيف يمكن إدارة أزمة لأمن الطاقة على المستوى العالمي كما هو الحال في الأزمة الأوكرانية الراهنة؟ ولا يعني ذلك أن الدول الكبرى لم يكن لديها إجراءات احترازية حيث إن المخزون الاستراتيجي من الطاقة أداة مهمة لتعويض النقص خلال الأزمات وخاصة للحفاظ على أسعار النفط في الأسواق العالمية، والذي يشعر به مواطنو الدول المستهلكة بشكل سريع، ولكن ما أعنيه هو كيف تؤثر الأزمة الأوكرانية في رسم مشهد جديد في التحالفات والشراكات الاقتصادية في العالم، وهو أثر يبدو عاجلاً لا آجلاً، لا أودّ سرد أرقام عن صادرات وواردات الدول بشأن الطاقة، وهي معروفة للجميع، ولكن ما يهمني هو أن درجة الاعتماد المتبادل على الطاقة وعدم وجود بدائل كافية على المدى المنظور لدى بعض الدول المستهلكة كان هو العامل ذا الأثر الأكبر في صياغة المواقف إزاء الأزمة الأوكرانية، وفي حال إطالة أمدها فإن موضوع الطاقة سيكون هو المحدد الرئيسي لمسار ومضمون ذلك الصراع مع عدم التقليل من أهمية العوامل الأخرى سواء الجوانب الإنسانية أو الاقتصادية، وأبرزها تحدي الأمن الغذائي للعديد من دول منطقة الشرق الأوسط. بمعنى آخر فإن الأثر المباشر لتوظيف الطاقة في الأزمة الأوكرانية على هذا النحو سيكون دافعاً نحو تحولات استراتيجية في المستقبل تتمثل في خمسة أمور: الأول: إعادة صياغة استراتيجيات الأمن القومي للدول الكبرى والتنظيمات الإقليمية وربما تخصيص استراتيجيات منفصلة لأمن الطاقة على غرار الأمن السيبراني بحيث تتضمن موضوع إدارة أزمات الطاقة ليس بالمفهوم الأمني التقليدي ولكن توظيف الطاقة خلال الصراعات بين القوى الكبرى مع ما يعنيه ذلك من خطط للطوارئ والأزمات في هذا الشأن، والثاني: تحقيق الأمن الذاتي للطاقة كمسألة مصيرية وخاصة للدول ذات الاعتماد الكبير على الصادرات، وهي مسألة ليست من السهولة بمكان إذ ترتب أعباءً هائلة تحتاج إلى إجراءات اقتصادية بالغة الصعوبة في الدول العالية الاستهلاك، أخذاً بالاعتبار أن التحديات الاقتصادية كانت سبباً رئيسياً في تغيير العديد من النخب الحاكمة في أوروبا خلال الانتخابات المتعاقبة، والثالث: استحواذ الطاقة على مضامين الشراكات التقليدية بين الدول بحيث تتجاوز المفهوم الأمني التقليدي لتؤسس لشراكات اقتصادية جديدة تكون الطاقة في بؤرة تلك الشراكات سواء في الأوقات الاعتيادية أو إبان الأزمات، والرابع: وضع مفهوم شامل لكون الطاقة جزءًا من السياسات الخارجية للتكتلات الإقليمية، فالاتحاد الأوروبي اتخذ تلك الخطوة بشكل مبكر عام 2006 عندما أعلن دمج أهداف تحقيق أمن الطاقة ضمن الاعتبارات الحاكمة لعلاقات الاتحاد مع دول العالم، ولكن تلك الاستراتيجية كان جل اهتمامها الجوانب الاقتصادية بعيداً عن سيناريوهات كبرى بشأن حالات انقطاع متوقعة، والخامس: إذا كان الحديث يدور حول تحولات جديدة في العالم على خلفية الأزمة الأوكرانية سواء أطلق عليها «حربا باردة جديدة» أو «تحولات في هيكل النظام العالمي» أو«توازنات جديدة للقوى» فإن الطاقة ستكون محدداً أساسياً في مضامين ومسارات تلك التحولات.
ويبقى التساؤل الأهم: أين منطقة الشرق الأوسط من تلك التحولات؟ وواقع الأمر أن قضية أمن الطاقة وما عكسته من مواقف قد أكدت حقيقة مفادها وجود مسارات مختلفة للشراكات ما بين دفاعية وسياسية واقتصادية، ومن ثم فإن محورية أمن الطاقة في تلك الشراكات ربما تسفر عن صهر تلك المسارات في بؤرة واحدة مستقبلاً بشكل يضمن مصالح متوازنة لكافة الأطراف.
} مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك