كثيرًا ما يسألني الأصدقاء والآخرون لماذا أكتب وأضيع وقتي في شيءٍ لا يَجلب فرحًا ولا يُدر مالًا بل يكلف مالًا غالبًا عند طباعة الأعمال الأدبية التي لا تغطي حتى نصف كلفتها، أقصد هذا في الوطن العربي بشكل عام. مازلتُ أذكر أحد الأشخاص بينما كنا نتحدث عن كاتب معين حين قال: «مسكين مازال يكتب!». ابتسمتُ مستغربًا لأنه ينظر إلى الكتّاب على أنهم أناس تُعساء أو ملعونون أو مصابون بلوثة عقلية، وهذا ما فهمتُ على الأقل من معنى تعليقه. قلت في نفسي «آه لو يعلمون، لكنهم لا يعلمون، ومن الصعب أن تعلّم من لا يدرك شهوة الكتابة ولذتها». لا أحد غير الكاتب وربما بعض الذواقة من يعرف روعة الكتابة وبأنها موهبة من عطايا الرب، ومحظوظ من ينثر كلماته على الورق أو على الشاشة منتزعًا أحزانه وإحباطاته ليحوّلها إلى حروف وكلمات، ربما ليعيد بناء العالم على الأقل داخله بعد أن تفكك من بين يديه وانهار. «ربما الكتابة هي القشة التي تنقذني من الانتحار أو الموت البطيء في هذا الزمن السريالي» كما قال أحد أصدقائي الكتّاب وطلب عدم ذكر اسمه. فالكتابة في رأيه فعل انزياح عن الواقع صوب عوالم أخرى طالما كان الخارجُ غير ودود.
يختلف الكتّاب في نظرتهم للكتابة وأغراضهم منها، فهي حالة إبداعية تنطلق من ذات الكاتب ووجدانه وضميره، وهي في حقيقتها أشبه بولادة حقيقية. كل كاتب له نظرته الخاصة عن السبب الذي يدفعه للكتابة. يقول توفيق الحكيم: «أنا لا أكتب إلا لهدف واحد هو دفع القارئ للتفكير، وبعد مائة كتاب أصدرته أعتقد أن أعمالي غير مجدية». ويقول نجيب محفوظ: «أكتب لرغبتي في أن أكون مهمًّا، وفي أن أظهر للآخر المبادئ التي يتم العمل عليها خلال بحث ما، وفي أن أكون مقروءاً.. لكني ما عدت أميّز بين الكتابة والحياة». ويقول محمود درويش: «ربما لأنني متورط في الكتابة بإيقاع لم يسمح لي بالتساؤل، أحياناً أكتب لألعب، لكن لماذا أكتب ربما لأنه لم تعد لي هوية أخرى، لم تعد لي محبة أخرى وحرية أخرى ولا وطن آخر». يقول دستويفسكي: «كنتُ، ومازلت أعتبر مهنة الكتابة من أنبل وأنفع المهن، وإنني لمقتنع تماماً من نفعي في هذا المجال، فلربما استطعت أن ألفِت الانتباه مجدداً والحصول على اسم جديد لامع يضمن وجودي». يقول الكاتب عثمان الفتحي: «الكتابة تحرر، أكتب لأنجو بأفكاري.. لأحررها من سجني لتهرب لغيري. أكتب لأن الكتابة فن. تضيء الكتابة عتمة الذات، وتسمح للأنا أن تسترد حضورها في عالم يضج بألوان الغموض». وتقول الكاتبة سهام دعاء الريان: «أكتب لأن الكتابة ملاذ الروح، وهي مساحة ود بيني وبين نفسي، كما أنها العالم الجميل الودود الذي أجد فيه السلام المفقود على الأرض. على الأوراق تنتهي الأحزان، وتنمو الآمال، وتزهر القلوب».
بالنسبة إلي الكتابة -بعد هذه السنوات الطويلة- أشبه بالتنفس والدواء الشافي الذي يقتلع الكآبة من جذورها داخل الكاتب ليتصالح مع نفسه بعد أن قمعه العالم. فهل مازال الكاتبُ «مسكينًا» كما وصفه ذلك الرجل «المسكين». إنه المحظوظ.. بل المحظوظ جدًا.. إنه الشغف الذي لا يضاهيه أي شغف.. ليتهم يدرون!!
Alqaed2@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك