عندما كنتُ صبيًا، كان بيتنا عامرًا، دافئًا، أمي معي وأبي، إخواني وأخواتي ما عدا أخي الكبير الذي طواه المنفى. وُلدت فضوليًا ممتلئًا برغبة اكتشاف غير عادية، لا أدري سبب ذلك ولكنني وجدت نفسي كذلك. كان أخي الأوسط يمتلك مكتبة بسيطة تتألف من عدة كتب ربما أغلبها لا يناسب عمري. كانت لديه قصة للأطفال اسمها «سكة الجان» لمحمد سعيد العريان. قرأتها أكثر من مرة. هذه القصة ربما ضاعفت من فضولي فهي تتحدث عن طفل يدخل بئرًا يأخذه إلى سكة الجن والعوالم الغريبة، ما زرع داخلي اهتمامًا غير عادي بالعالم الآخر، كما يسمونه، عالم الغرائب غير المفهومة وربما العصية على المنطق أحيانًا.
كانت هناك عدة قصص أخرى للأطفال قرأتها ولا أتذكر أسماءها. في المكتبة وجدت رواية «في بيتنا رجل» لإحسان عبدالقدوس التي التهمتها التهامًا وقرأتها مرات لا أذكر عددها. هذه الرواية تأثرتُ بها كثيرًا، وربما رسمت جزءًا من خارطة طريقي القادم وخاصة أن ذلك كان في أوج العصر الناصري وفترة ازدهار وامتداد الفكر القومي العربي في مرحلة التحرر من الاستعمار. كتاب آخر أتذكر أنني وجدته في مكتبة أخي هو «الفضيلة أو بول وفرجيني» وهي رواية للكاتب الفرنسي برناردين دي سان بيير، ترجمها الكاتب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي.. رواية أبكتني نهايتها الدرامية.
أذكر أنني بعد أن أنهيت مكتبة أخي بالكامل لم يتبق إلا كتاب واحد كنتُ مترددًا في قراءته لأنه ليس قصة أو رواية ولكنني تجرأت وقرأته على الرغم من أنه غير مناسب تمامًا لصبي مثلي. كان ذلك كتاب «ليلة الزفاف». طبعًا كنت أقرأ الكتب عندما كان أخي يتوجّه إلى مقر عمله في شركة النفط ولا يعود إلا عصرًا. ذلك الفضول وحب الاكتشاف دفعني إلى أن أتمادى في الجنون وبدأت أقرأ ما كان يدوّنه أخي كل ليلة في مذكرته عن يومياته. بعد أن أنهيت كل الكتب في المكتبة وجدت نفسي أبحث عما أقرأه أو اشحذ ما أقرأه من هنا وهناك، ما اضطرني أحيانًا إلى أن أسرق من والديّ لكي أشبع نهمي وأقتني الكتب التي لم يكن مصروفي البسيط يكفي لشرائها.
أذكر أنني عندما كنت في حوالي الثانية عشرة من عمري توجّهت مرة إلى المكتبة الوطنية التي كان موقعها آنذاك في بداية تقاطع شارع باب البحرين وشارع الشيخ عبدالله وسألتُ عن ثمن كتاب «فن القصة» ولم يكن معي المبلغ فسألني صاحب المكتبة المرحوم إبراهيم عبيد عن سر اهتمامي بالكتاب فأجبته بأنني «أريد أن أتعلم كتابة القصة»، فأخذ الكتاب ووضعه بين يدي فقلت له سوف أعود لشرائه عندما يتوفر لديّ المبلغ، لكنه أصرّ أن آخذ الكتاب وأدفع في أي وقت. موقف لا أنساه طول عمري من رجل كان يعرف قيمة الثقافة ومحبي الثقافة.
الشغف بالقراءة منذ الطفولة كان بداية الطريق.. طريق طويل.. ممتلئ بالمعاناة والاغتراب فالمعرفة أحيانًا تُشقي المرء، كما قال الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر «المعرفة هي الجحيم».
Alqaed2@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك