ثقافة الشاي (Tea Culture) هي تلك الثقافة الصادرة عن التمثيلات الثقافيّة الإنسانية المتعلقة بصناعته، وطقوس شربه، وثقافاته المتوازية من طقوس العزلة والطقوس الاحتفالية الاحتفائية منذ آلاف السنين، وكذلك مروياته الشفاهية ومدوناته الكتابية، وفنونه، وموسيقاه! ويمكننا العثور في الصين واليابان على بيوت الشاي، ويمكننا العثور كذلك عليها في تلك المناطق الشاسعة التي كانت تشملها طريق الحرير في قلب التبادلات الثقافيّة بين الموانئ الأوروبية ومناطق الشرق الأقصى منذ القرن السادس عشر الميلادي وما تلاه. لقد عُدَّ الشاي بطقوسه رمزًا لهيمنة الإمبراطورية الصينية، ومن ثمَّ الإمبراطورية البريطانية التي نقلت طقوس الشاي واحتفالياته إلى مستعمراتها المنتشرة في العالم آنذاك منذ القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين.
«ينطوي الشاي على سحرٍ خفيٍّ يجعله لا يُقاوم ويمنحه القدرة على إسباغ الإحساس بالمثالية. فالشاي ينأى بنفسه عن غطرسة النبيذ، وعن غرور القهوة، وعن البراءة المتكلّفة في نبتة الكاكاو».. هكذا كتب أوكاكورا كاكوزو في كتابه «الشاي». وينتمي الياباني أوكاكورا كاكوزو (1862-1913) إلى عائلة من المحاربين الساموراي، وقد انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهناك انضم إلى الأوساط الفنية وأصبح قيّمًا مساعدًا للقسم الصيني والياباني في متحف بوسطن للفنون الجميلة. وقد ألَّف كتاب «الشاي» باللغة الإنجليزية عام 1905، ورغم مضي قرن كامل على تأليفه إلا أنَّ هذا الكتاب كما يقول مترجمه إلى العربية سامر أبو هوَّاش يُعد أعظم كتاب أُلِفَ عن الشاي في تاريخ العالم والبشرية.
إنَّ كاكوزو الذي كان قريب العهد زمنيًا من نهضة الإمبراطور المايجي في اتصاله بالحضارة الغربية كان حريصًا في هذا الكتاب على أن يجعله بمثابة منصة فكرية وثقافية للدفاع عن الحضارة والثقافة اليابانية أمام المتلقي الغربي، وهكذا يبدو خطابه دفاعيًا في المقام الأول. يقول كاكوزو «إنَّ أولئك الذين لايحسون بضآلة الأشياء العظيمة في ذواتهم، ميَّالون إلى إهمال العظمة الكائنة في الأشياء الصغيرة لدى الآخرين. إنَّ الغربي العادي، الغارق في الاكتفاء الذاتي، لا يسعه أن يرى في حفل الشاي إلا دليلاً آخر على الغرائب الكثيرة التي تشكّل سحر الشرق وطفوليته. وكان يعتبر اليابان بلدًا بربرياً، في الوقت الذي انغمست فيه في فنون السلام الرقيقة؛ وبدأ يعتبرها متحضرة حين بدأت ترتكب المجازر بالجملة في ميادين القتال في إقليم منشوريا. وقد تعرَّض «قانون الساموراي»، فن الموت ذاك الذي يدفع جنودنا إلى التضحية بأرواحهم بكل سرور إلى النقد الكثير أخيرًا، لكن بالكاد يبدي هذا الغرب أي اهتمام بـ«الشاييه». ولذلك فإنَّ كتاب الشاي كما ألفه كاكوزو ليس مجرد طقوس له وبيان طرائق إعداده إنه كتاب يغوص عميقًا في تمثيلات الشاي الروحية العميقة وصدور معلمي الشاي عن فلسفات مثل التاو والزن.
في الفصل الأول من الكتاب الذي أسماه كاكوزو«كوب الإنسانية» ينبري بخطاب سجالي طويل ضد خطاب الغرب الاستعلائي المشوّه لليابان آنذاك، وهو الخطاب الذي اختزل اليابان فقط في الثقافة العسكرية «ثقافة المحاربين الساموراي»، ولم يتناول من تلك الثقافة سوى ثقافة العنف. في الحين الذي غيّب فيه هذا الخطاب الغربي الاستعلائي التمثيلات الثقافية الحضارية المرهفة الحس للياباني ومنها تقاليد «الشايية» في جمالياتها أي كل ما يتصل بها من طقوس حضارية ثقافية.
إنَّ ارتباط طقوس الشاي اليابانية بفلسفتي التاو والزن كان يعني النزعة الفردية في الفلسفة الصينية الجنوبية بالتعارض مع الحس الجماعي في الفلسفة الصينية الشمالية الذي عبَّر عن نفسه في الكونفوشيوسية. يقول كاكوزو” زعم التاويون أنه يمكن تحويل ملهاة الحياة إلى شيء شيق أكثر لو حافظ الجميع على الانسجام بين مختلف الوحدات فالاحتفاظ بتناسب الأشياء والإفساح في المجال للآخرين من دون أن يفقد المرء موقعه الخاص هو سر النجاح في الدراما الدنيوية. علينا الإلمام بالمسرحية كلها، لكي نلعب دورنا بطريقة صحيحة؛ مفهوم الكلية لاينبغي أن يضيع البتة في مفهوم الفردية. وهكذا فإنَّ هذا الكتاب الذي يعد الكتاب الأهم عن الشاي في التاريخ الإنساني يعد بالفعل كتابًا ثقافيًا مهمًا في قضايا التواصل الثقافي والحضاري مع الآخر ويعد كذلك كتابًا جماليًا روحانيًا فلسفيًا عميقًا. إنه كتاب استطاع اختزال الثقافة اليابانية كلها في طقوس الشاي.
{ أستاذة السرديات والنقد الأدبي الحديث المشارك
كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك