«مخاطر أمنية وحلول متعددة الأطراف» تلك هي النتيجة الاستراتيجية التي يمكن من خلالها وضع عنوان عام لأبرز ما خلصت إليه مناقشات القمة السابعة عشر لحوار المنامة الذي ينظمه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، وعلى الرغم من كونه منبرًا سنويا مهمًا لعرض الرؤى الرسمية بشأن المستجدات الأمنية التي تشهدها منطقة الخليج العربي ومناقشة الآليات المطروحة بشأنها فإن أجندة الحوار هذا العام قد عكست ثلاثة أمور لافتة أولها: على الرغم من تعدد التحديات الأمنية التي تواجه دول الخليج العربي من بينها المليشيات والصواريخ فإن الردع من خلال الشراكات الدفاعية يبقى هو الآلية الرئيسية لمواجهتها، ويعد ذلك تطبيقًا لمفهوم توازن القوى المتطلب الرئيسي لتحقيق الأمن الإقليمي أو بالأحرى الحيلولة دون تطور الأزمات نحو حافة الهاوية، وثانيها: لم يعد مفهوم دول الجوار هو الإطار التقليدي بالمعنى الجغرافي بل تضمن شرق المتوسط والقرن الإفريقي بما يعني أن «جوار الجوار» هو السياق الراهن للمنظومة الأمنية الخليجية، وقد وجد ذلك سبيله في مؤشرات عديدة للانخراط الخليجي في هاتين المنطقتين من خلال آليات أمنية وسياسية واقتصادية، وثالثها: أنه في ظل طبيعة التهديدات الأمنية الراهنة فإن ثمة حاجة إلى أطر متعددة الأطراف لمواجهتها تتجاوز الأطر الإقليمية الراهنة، صحيح أن تلك التنظيمات الإقليمية تظل هي حجر الزاوية ضمن أي جهود أخرى بيد أن طبيعة القضايا ومن بينها الأمن البحري والأمن السيبراني والتغير المناخي تتطلب تحالفات وعملا جماعيًّا.
ومع التسليم بأن الحوار قد تضمن إعادة تأكيد عدة ثوابت منها الالتزام الأمريكي بأمن منطقة الخليج العربي في ظل ما أثير حول تأثير استراتيجية إعادة الانتشار العسكري الأمريكي في الخارج وما يرتبه ذلك من نتائج على أمن الخليج، فقد كان لويد أوستن وزير الدفاع الأمريكي واضحًا في هذا الشأن عندما استشهد بمقولة وزير الدفاع الأمريكي الراحل كولن باول بأن «الولايات المتحدة ترتبط بهذه المنطقة بألف رابط»، وهو الأمر الذي عبر عنه في الوقت ذاته بريت ماكجورك منسق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمجلس الأمن القومي الأمريكي وأنه من التبسيط قياس ذلك الالتزام في الرد الأمريكي على مناوشات تقع في المنطقة من آن إلى آخر بل تأكيده القول «إذا تم اختبارنا فسوف نرد وبقوة».
وعلى الرغم من اتفاق الرؤى بشأن وجود قائمة من التهديدات الأمنية التي تواجه المنطقة – سواء التقليدي منها أو المستجد- فإن آليات مواجهتها قد تباينت ما بين الردع والآليات الدبلوماسية، بل إن مفهوم الردع ذاته قد تضمن طرحًا جديدًا مفاده أهمية ألا يقتصر على الردع بمعناه العسكري بل يجب أن يتضمن مضامين اقتصادية وإلكترونية واجتماعية، بالإضافة إلى أن الردع لا يعني بالضرورة العمل العسكري بل يجب أن يتوازى معه تفعيل الأدوات الدبلوماسية على أن يكون ذلك من خلال منصة دبلوماسية دائمة تتيح التعامل بمرونة مع المستجدات الأمنية سريعة التطور.
وفي خضم هذا النقاش حول التهديدات الأمنية الإقليمية وسبل مواجهتها فقد برز الحديث عن ثلاثة تحديات رئيسية أولها: التدخلات الخارجية في الصراعات الراهنة والتي ترتب درجة عالية من الاستقطاب بما يحول دون بلورة رؤى وطنية لإنهاء تلك الصراعات، وثانيها: حالة التنافس الإقليمي والعالمي بالقرب من الممرات المائية الدولية والتي أدت إلى عسكرة منطقة القرن الإفريقي بمعناه الجيواستراتيجي، صحيح أنه يجمعها عنوان كبير مضمونه التعاون لمواجهة القرصنة البحرية بيد أنه مع تعارض المصالح والجدل حول إرهاصات حرب باردة جديدة فإن ذلك سوف يلقي بظلاله على كيفية التفاعل بين تلك القواعد مستقبلاً، وثالثها: تهديدات الأمن البحري والتي تعددت مظاهرها سواء استهداف ناقلات النفط أو إمكانية وقوع كوارث بيئية بحرية لن تكون أي دولة ببعيدة عن آثارها.
ومع أهمية ما تضمنه حوار المنامة من مناقشات مستفيضة حول أبرز المستجدات الأمنية وتأثيرها على أمن الأمن الإقليمي والأمن العالمي وما استلزمه ذلك من أطر للتعاون سواء ضمن تنظيمات الأمن الإقليمي والتي يعكسها الاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيجاد وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية فإن ثمة أفكارا أخرى بشأن أهمية العمل متعدد الأطراف والتي تنتهجها دول المنطقة بالفعل ومنها مبادرة المملكة العربية السعودية الخضراء والتي تقدم نموذجًا متعدد الأطراف حيث إنها متاحة للدول الأخرى للانضمام إليها، فضلا عن جهود المملكة لمواجهة ظاهرة التغير المناخي خلال رئاستها لقمة مجموعة العشرين عام 2020. وقد كان واضحًا الحديث عن أنه من مؤشرات تلك التعددية الحوار الإقليمي- الإقليمي من خلال الحوار بين مجموعة دول الآسيان ومجلس التعاون لدول الخليج العربية انطلاقًا من المصالح المشتركة والارتباط الاستراتيجي بين الخليج العربي وآسيا وأن تفعيل ذلك التعاون يتطلب تدابير بناء الثقة وتبادل المعلومات ووجود قناعات لدى الجانبين بالمصير المشترك والارتباط بين أمن الخليج والأمن الآسيوي وأمن العالم. وفي تقديري أن الحوار قد أسفر عن خمسة نتائج مهمة الأولى: أن التهديدات الأمنية تحتاج إلى مزيج من الردع والدبلوماسية بهدف خفض التوتر وعدم الانزلاق نحو سيناريوهات قد تحمل في طياتها سوء تقدير، والثانية: أن جميع التهديدات تمثل تحديًا لكل الأطراف الإقليمية والدولية في آن واحد وإن تباينت درجاتها بما يعكس حقيقة مؤداها أنه لم يعد ممكن الحديث عن أمن إقليمي وآخر عالمي، والثالثة: أنه على الرغم من الجهود الدولية لحل الصراعات في مناطق التوتر فإن ذلك يرتكز على الأطر الإقليمية التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة في الباب الثامن منه، والرابعة: أن قوة الأمن الإقليمي تنبع من قوة الوحدات المكونة له، بما يعنيه ذلك من أن دعم القدرات الأمنية للدول يعد متطلبًا أساسيًّا لتعزيز منظومة الأمن الإقليمي، والخامسة: أنه في ظل التهديدات الأمنية الراهنة فإن ثمة حاجة إلى هيكلية أمنية متعددة الأطراف تنطوي فيها كل الجهود.
لقد شهدت المنطقة أطرا عديدة للعمل الأمني الجماعي سواء أكان ذلك بشكل وقتي ارتبط بأزمات محددة أو بشكل دائم لمواجهة خطر داهم بما يعنيه ذلك من وجود خبرات تراكمية لدى دول المنطقة حول آليات العمل الجماعي الذي لم تفرضه طبيعة الأزمات فحسب بل المستجدات الأمنية المتسارعة التي تحتاج إلى اتفاق الأطراف ذات الصلة بمسارات تلك التهديدات والآليات التي يتعين الاتفاق بشأنها لمواجهتها بل والأهم طبيعة مساهمات الدول ضمن تلك الأطر المقترحة وتقدم الأطر الإقليمية والدولية التي تم تأسيسها بشأن الإرهاب والملاحة البحرية نماذج واضحة في هذا الشأن وربما تكون هناك مساعٍ مماثلة بشأن الأمن السيبراني والتغير المناخي ومخاطر الأوبئة وجميعها مستجدات أمنية تحتاج إلى أطر جماعية تتضمن تعاونًا عمليًّا الآن وقبل أي وقت مضى.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك